ثمانون عاماً من الإبداع والألق وامتلاك الناصية .. ثم أراح ركابه بعيداً عن العراق شاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري

> «الأيام» د.هشام محسن السقاف:

> قبل أن يشغلنا جواهري القرن العشرين بتأريخ ميلاده المقرر قبل أو بعد مطلع ذلك القرن الصاخب، علينا أن نورد للتدليل فحسب بيتا من الشعر للرصافي الكبير يضع فيه صاحبه (الجواهري) في المنزلة الأسمى يقول:

بك لا بي أصبح الشعر زاهرا

وقد كنت قبل اليوم شاعرا

أما أحمد السقاف رئيس رابطة الأدباء في الكويت، فقد قدمه بكلمة ساحرة في مقر الرابطة مساء الأربعاء 31 يناير 1979م:

(لعلكم توافقونني الرأي أن الشاعر العربي الكبير محمد مهدي الجواهري غني عن التعريف، فشهرته العربية والعالمية قد فاقت الآفاق وجهاده الصلب في سبيل أمته العربية جعله يحتل مكانة خاصة في قلوب الملايين من أبناء هذه الأمة، لقد عرف الجواهري شاعرا ثائرا على الاستعمار والظلم والاضطهاد، ولقد وقف بصدق إلى جانب الشعوب المناضلة في سبيل الحرية والعدالة، فكان بذلك صوتاً حراً جريئاً ترتجف له قلوب المستعمرين.

لقد حفظ الشباب قصائد الجواهري وتغنوا بها في مسيراتهم الوطنية لكونها شعراً أصيلاً يمجد التضحية ويمجد الفداء في سبيل الوطن ويرفض الخنوع والذل والاستسلام.

إن الجواهري زوبعة في دنيا الشعر لاتضاهيها إلا زوبعة الشعر العباسي).. ليلتها غنى الجواهري راداً التحية بمثلها:

مصابيح البيان لئن تعاصى

فقد يُلفى السكوت أعز نطقا

لعل البعدَ يُطلقُ من لسان

أما وهواكمُ وندي شوق

وغرَّ مكارمٍ فيئت فيها

يمنياً إنَّ لي نفساً تغني

سأحفظ عهدكم لأجد عهداً

وسوف أبعثر الأطياف علي

ولعل سمة الخروج عن المألوف والتمرد صفة في ابن النجف الشريف منذ صباه، فالبيئة العلمية والأسرة الكريمة وقد صقلت اتجاهات الفكر فيه نحو البلاغة والنحو والصرف والفقه ماكانت لتحبذ أن يشق محمد عنان السماء بملكات القريض، ويبدأ في سن مبكرة التماهي في القوافي، أو حسب قوله: أنا رجل أكلت القوافي لساني! والنتف والمقاطع الأولى من شعره اختفت تماماً إلا أنه يطل على فضاء الشعر العربي عام 1921م بقصيدة نشرتها مجلة بيروتية بحفاوة، ثم يتوالى سيل القصائد مع بدايات المشهد العراقي الحديث وتتويج الملك فيصل بن الحسين ملكاً على العراق، ليجد نفسه فاعلاً في الأحداث وخائضاً في لجج السياسة بشعره، فمثلاً (حلبة الأدب) وهي مجموعته الشعرية الأولى عارض فيها معاصريه من الشعراء، إلى تقلبه في المناصب التي غالباً ماتكون معلماً أو مدرساً في مدارس العراق، بالرقي فيها أو التوقيف تبعاً للمزاج السياسي الحاكم، فهذا ساطع الحصري قطب القومية العربية يفصل شاعرنا بسبب قصيدة قالها في إيران بعنوان (بريد الغربة) وتقول:

هبَّ النسيم فهبت الأشواق

وهفا إليكم قلبه الخفاقُ

وتوافقا فتحالفا هو والأسى

وحمام هذا الأيك والأطواقُ

عار على أهل الهوى أن تزدرى

هذي النفوس وتشترى الأعلاق

.......................

هي فارس وهواؤها ريح الصبا

وسماؤها الأغصان والأوراق

ولعت بها عشاقها وبلية

في الشرق إن ولعت بها العشاق

.......................

لي في العراق عصابة لولاهم

ماكان محبوباً إليَّ عراق

لا دجلة لولاهم وهي التي عذبت

تروق ولا الفرات يذاق

والبيتان الأخيران كفيلان بفصله من وظيفته من قبل مدير المعارف لولا تدخل الوزير.

ولعلنا لانستطيع أن نمر دون الإشارة إلى إعجاب الملك فيصل به، وتدليله في وظيفة التشريفات الملكية، لكن الشاب المدلل لا يأبه لذلك ويمضي على منوال الشعر المعارض والمغاضب حتى العام 1930م عندما استقال من البلاط الملكي وأصدر جريدة (الفرات) التي أوقفتها الحكومة مما آلمه كثيراً وعاد إلى المدرسة المأمونية معلماً عام 1931م، ثم إلى الوزارة رئيساً لديوان التحرير.

وتكون قصيدته في مدح الأمير (حينها) فيصل بن عبدالعزيز الذي زار العراق قاصمة الظهر في علاقته بملك العراق الذي آلمه أن يمدح الجواهري الضيف ولاتذهب ممدوحيته إليه، بكل ما يكتنف هذا الأمر من خلفية العلاقة المريرة بين الأسرتين السعودية والهاشمية وهو أمر يفطنه الشاعر تماماً ومنه أراد الولوج - بالأساس - إلى تكدير قلب ملك العراق أكثر منه مدحاً للضيف، وعندما نشر قصيدته (في سبيل الحكم) تأخذه القصيدة بعيداً عن وظيفته ومطلع القصيدة:

لقد ساءني علمي بخبث السرائر

وإني على تطهيرها غير قادر

.......................

وألمح في هذي الوجوه كوالحاً

من اللؤم أشباه الوحوش الكواسر

وتوحشني الأوساط حتى كأنني

أعاشر ناساً أنهضوا من مقابر

تصفحت أعمال الورى فوجدتها

مخازي غطوها بشتى الستائر

لكنه، في معرض علاقة الشاعر بالملك، نراه بعد خمسين عاماً وأكثر يستعرضها الجواهري بشيء من الحسرة والندم، بعد أن انكشفت رداءة النظم الديكتاتورية التي تعاقبت على حكم العراق بعد الانقلاب الذي أطاح بالملكية الدستورية في تموز عام 1958م.

ويقيناً أن للجواهري الشاعر المغلق نشاطاً صحفياً كبيراً ومؤثراً بحاجة لتمحيص من نوع آخر منذ إصداره (الفرات) مطلع الثلاثينات، وحتى العام 1954م عندما أصدر جريدة (الرأي العام) التي سرعان ماعطلت لمناهضته الحكم القائم، وبذاك نراه رئيساً لاتحاد الأدباء العراقيين ونقيباً للصحفيين في آن، وذهب بالصفة الأولى للمشاركة في المؤتمر الرابع للأدباء العرب في الكويت عام 1958م.

أما ثورة تموز عام 1958م فقد حياها بقصيدته:

سدد خطاي لكي أقول فأحسنا

فلقد أتيت بما يجل عن الثنا

ولكن عهد الود مع الثورة لم يدم طويلاً، فغادر إلى بيروت منتهزاً حفل تكريم بشارة الخوري (الأخطل الصغير) عام 1961م، ليستقر بعدها في براغ.

يقول الجواهري في تكريم الخوري من قصيدة بعنوان (لبنان ياخمري وطيبي):

لبنان ياخمري وطيبي

هلا لممت حطام كوبي

هلا رددت لسهدها

عيني، وقلبي للوجيب

هلا عطفت لي الصبا

نشوان يرفل بالذنوب

نزق الشباب عبدته

وبرئت من حلم المشيب

.......................

أيه بشارة والليالي

مثقلات بالعجيب

متدافعات بالفجاءة

لا ينين من اللغوب

والدهر في صعد وما

عز الطلاب على طلوب

والزهرة الشقراء طوع

يدي (ككارين) الرهيب

الأخطل الجبار جاء

(الكوفتين) على نجيب

وأبو العلاء على بنات

الماء تحدى بالجنوب

.......................

أبشارة ياناخل الأيام

بالفكر الأريب

يامن نزلت بسوحها

من يانع خضل وموبي

يامن أذبت ضريبها

في علقم الألم الوصيب

يامن غذيت من الأذى

وشبعت من أفك وحوب

ولاشك أن سبعاً من السنين في الغربة الباردة لم تكن خالية الوفاض من فيض شاعر لا تنضب منابعه، فمع أن (التشيك) قد أكرمت الجواهري، لا كلاجئ حل رحاله في براغ، وإنما كشاعر عربي وعالمي مرموق، يكون إلى جواره (علم) العراق في الملتقيات والمهرجانات الأدبية. يقول عن (براغ):

أطلت الشوط من عمري

أطال الله من عمركْ

ولا بُلِّغتُ بالشر

ولا بالسوء من خبرك

حسوت الخمر من نهرك

وذقت الحلو من ثمرك

وغنتني صوادحك النشاوى

من ندى سحرك

ولم يبرح علي الظل

بعد الظل من شجرك

ومع أصناف الحسن في (براغ) فإن البلبل الشادي يحن إلى عشه على وارفة من وارفات دجلة والفرات، فجاءت قصائد (بريد الغربة) وهو الديوان الشعري الذي ضم بين دفتيه قصائد الحنين إلى العراق من بلد الثلج.

وقد تصدرت ذلك الديوان قصيدة (حببت الناس) التي يستشرف فيها ابن النجف السيد محمد مهدي الجواهري أبعاداً إنسانية لحبه الإنسان كإنسان بغض النظر عن لونه أو جنسه أو عقيدته:

حببت الناس والأجناس

والدنيا التي يسمو على لذاتها

الحب للناس

حببت الناس والأجناس

في الطفل الذي لاينسب الناس

لأعراق وأجناس

حببت الناس والأجناس

في المرأة كالأنموذج الحلو

لحب الناس للناس

حببت الناس والأجناس

في الخمرة تختال على أنخابهم

إذ تقرع الكأس

حببت الناس والأجناس

في «الزنجية» الحلوة من لُفَّت

وأهلوها بأكياس

حببت الناس والأجناس

مذ شاركنا الأحباش والبربر

والزنج بأحزان وأعراس

وهكذا دواليك تمضي هذه القصيدة الرائعة، أما قصيدته ذائعة الصيت (يادجلة الخير) فقد جاوزت شهرتها كل توقع ، يقول مطلعها:

حييتُ سفحك عن بعد فحييني

يادجلة الخير يا أم البساتين

حييت سفحك ظمآناً ألوذ به

لوذ الحمائم بين الماء والطين

.......................

يا أم بغداد من ظرفٍ ومن غنجٍ

مشى التبغدد حتى في الدهاقين

يا أم تلك التي من ألف ليلتها

للآن يعبق عطر في التلاحين

والأجمل أن يتماهى وَلَه العراقي في كل ماهو دجلة وفرات وبغداد.. حتى في الضفادع:

حتى الضفادع في سفحيك سارية

عاطيتها فاتنات حب مفتون

غازلتهن خليعات وإن لبست

من الطحالب مزهو الفساتين

وعندما بدأ عهد البعث عام 1968م في العراق يلح عليه بالعودة قطب من أقطابهم هو صالح مهدي عماش، وزير الداخلية وصديق الشاعر، فجاءت عودته إلى بغداد، وكان الحفل الذي أقامته على شرف عودته وزارة الإعلام وهناك صدح بأجمل ما جادت به قريحته الشعرية:

أرح ركابك من أين ومن عثر

كفاك جيلانِ محمولا على خطر

كفاك موحش درب رحت تقطعه

كأن مغبره ليل بلا سحر

ويا أخا الطير في ورد وفي صدر

في كل يوم له عش على شجر

عريان يحمل منقاراً وأجنحة

أخفُّ ما لمَّ من زادٍ أخو سفر

بحسب نفسك ماتعيا النفوس به

من فرط منطلق أو فرط منحدر

أناشد أنت حتفا صنع منتحر

أم شابك أنت، مغتراً، يد القدر

أم راكب متن نكباء مطوِّحة

ترى بديلاً بها عن ناعم السرر

خفض جناحيك لاتهزأ بعاصفة

طوى لها النسر كشحيه فلم يطر

ألفى له عبرة في جؤجؤٍ خضب

من غيره وجناح منه منكسر

ويمضي القسم الأول من عقد السبعينات دون متاعب حقيقية بالمقارنة مع حياة عاصفة عاشها الجواهري في الأربعينات والخمسينات، بل يترأس وفد أدباء العراق إلى مؤتمرات الأدباء العرب في دمشق وتونس وتقدمه الصحافة العربية بشاعر العرب الأكبر، ولكن صعود تيار المغامرة في بعث العراق إلى سدة الحكم، وانفضاض عرى الجبهة التقدمية، واستشهاد نجل الرئيس أحمد حسن البكر في حادث غامض، كل ذلك نذر مرحلة جديدة لاتخلو من عنف وإرهاب منظم ما يجبر الشاعر العظيم وقد جاوز السبعين أن يحمل عصا الترحال ثانية، وتلفه المنافي البعيدة، قبل أن تستقبله دمشق بحفاوة بالغة من رئيسها الراحل حافظ الأسد الذي جعل له قصراً لايبعد كثيراً عن قصره، ليكمل بقية الشوط بعيداً عن العراق ومنزوعة الجنسية العراقية عنه، وهو الذي قال عنه عماش: (إلى متى يظل شاعر الأمة بعيدا عن الأمة)!

في غير مناسبة، عبر رحلته الشعرية الثرية حيا (دمشق)، غير أنه في العام 1979م وقد شهد وفاقاً مؤقتاً بين دمشق وبغداد، قال في دمشق :

شممت تربك لا زلفى ولا ملقا

وسرت قصدك لا خبّاً ولا مذقا

وماوجدت إلى رؤياك منعطفا

إلا إليك ولا ألفيت مفترقا

كنت الطريق إلى هاوٍ تنازعه

نفس تسدّ عليه دونها الطرقا

وكان قلبي إلى رؤياك باصرتي

حتى اتهمت عليك العين والحدقا

شممت تربك أستاف الصبا مرحا

والشمل مؤتلفا والعقد مؤتلقا

وسرت قصدك لا كالمشتهي بلداً

لكن كمن يتشهى وجه من عشقا

قالوا دمشق وبغداد فقلت هما

فجر على الغد من أمسيها انبثقا

ما تعجبون؛ أمِنْ مهدين قد جمعا

أم توأمين على عهديهما اتفقا

يهددان لساناً واحداً ودماً

صنواً ومعتقداً حراً ومنطلقا

أقسمت بالأمة استوصى بها

قدرٌ خيراً ولائم منها الخلق والخلقا

فلا رعى الله يوماً دس بينهما

وقيعة ورعى يوميهما ووقا

واكتمل ألق السراج في نهاية القرن العشرين بوفاته وهو الذي عَلَقَتْ ذبالته نباهةُ الشعر وعبقريته مطلع القرن العشرين، ولا أقول انطفاءته، فالشعر والشاعر خليقان بالبقاء، مات في دمشق الشام التي أحبها الجواهري كثيراً، وغير بعيد كثيراً عن العراق.

*محاضرة ألقاها الكاتب في منتدى الوهط الثقافي عصر الخميس 19 فبراير الحالي.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى