السخرية في قصص الضباعي هادفة تتجه .. نحو نقد الظواهر والسلوكيات غير المستقيمة

> «الأيام» د. عيدروس نصر ناصر النقيب:

> يدخل المبدع عبداللاه الضباعي عالم القصة القصيرة من خلال مجموعته القصصية الموسومة بـ «يشرك بعد الصلاة».

وبقدر مايسمح لي الوقت والمتابعة كنت قد اطلعت على بعض كتاباته القصصية المنشورة في بعض الصحف المحلية واكتشفت من خلال هذه القراءات المتعجلة قدرات إبداعية وفنية جديرة بالتقدير والاهتمام.

في هذه المجموعة القصصية يواصل عبداللاه مشواره الأدبي مقتفيا المنهاج نفسه الذي كان قد اتبعه في مجموعاته الشعرية والقائم على النقد اللاذع للظواهر والسلوكيات القبيحة المخالفة لفطرة الإنسان أو مايسميه الفلاسفة وعلماء الأخلاق بـ«الرذائل» وبالمقابل تبني المواقف والسلوكيات والأخلاقيات الحميدة أو مايسمى بـ«الفضائل».

وما هو جدير بالملاحظة هنا هو أن عبداللاه وهو ينتقد هذه الرذيلة أو تلك ويشيد بهذه الفضيلة أو تلك لايتبع المنهاج المدرسي القائم على الوعظ والنصيحة الهادفين إلى تجنب ماهو رذيلة وتبني ماهو فضيلة، بل يستخدم أسلوبه السردي البديع في استعراض أحداث قصته بـ«حيادية صورية» تاركاً للقارئ اللبيب استكناه ما يريد قوله دونما حاجة إلى الإيعاز أو الإيماء بما هو جميل وما هو قبيح مؤمنا بأن القارئ يمتلك من الذكاء والذوق مايؤهله للفصل بين الخير والشر بين الحق والباطل بين الجميل والقبيح .

وقد قلت إن الضباعي يتعمد ما أسميته بـ«الحيادية الصورية» لأنني أعلم أنه لايوجد حياد بين الفضيلة والرذيلة، كما أعلم أن الضباعي ذاته لايمكن أن يقف موقفاً وسطياً بين هاتين القيمتين الأخلاقيتين وهذا بالضبط ماتقرؤه عنده سواء في هذه المجموعة القصصية أو في مجموعاته الشعرية التي سبق الحديث عنها، فهو إذ يتظاهر بعدم الانحياز لهذا المسلك أو ذاك، حسن هذا المسلك أم قبح، فإنه يسخر بمرارة شديدة بين ثنايا عمله من المواقف المعوجة والتصرفات غير السوية ليفاجئك في الغالب بموطن الخلل وكأنه يقول لك: احكم بنفسك على هذا السلوك أو ذاك الموقف فأنت أهلٌ لهذا .

تحتوي هذه المجموعة على اثني عشر نصاً تتوزع بين القصة الساخرة والقصة الرمزية والقصة الوعظية ومعظمها مشحون بروح النقد الشديد لكل مالا يستقيم مع الفطرة السليمة والمواقف والسلوكيات.

وهذه القصص يتجلى الموقف الفلسفي والأخلاقي لصاحبها كخصم لدود للظلم والبيروقراطية والجهل والتعالي والغرور والفساد، وكنصير «متعصب» للحق والعدل والبساطة والمعرفة والنزاهة، وهذا ما يتجسد ليس فقط في هذه المجموعة القصصية بل وفي كتاباته الشعرية السابقة.

السخرية الناقدة:

تكاد السخرية أن تتخلل جميع محتويات هذه المجموعة القصصية منذ الصفحة الأولى حتى الصفحة الأخيرة ، والسخرية هنا ليست تلك السخرية الفجة الهادفة إلى التسلية والاستمتاع بالإضحاك، بل أنها سخرية هادفة تتجه نحو نقد الظواهر والسلوكيات غير المستقيمة.

وهي كما قلت لاتستجدي القارئ تبني موقف معين تجاه موضوع النقد بل تترك له حرية الاختيار مكتفية بتحريضه من خلال كشف عورات المجتمع وتعرية مثالبه ونقاط ضعف أفراده.

ففي قصة «الاجتماع المقدس» التي تتركز أحداثها في أن المدير يجتمع بالموظفين ليملي عليهم مجموعة من التعليمات الشكلية عديمة الأهمية، حيث ينحصر حديثه - أي حديث المدير- في الاجتماع عن الحضور والغياب، يتلفظ بعبارات لاتليق برجل في مكانه ولابحق من توجه إليهم مثل هذه العبارات والألفاظ، يفتتح الاجتماع قائلاً :

اسمعوا ياحيوانات .. ياتافهين أنتم لاتفهمون عمل .. «وإذا ماحاول أحد الاحتجاج أو الاعتراض على هذه الطريقة في التخاطب ينهره قائلاً :

«اسكت يابغل اجلس ياحمار أنا لم آذن لك ولم أسمح لتافه مثلك ولن أسمح لحمار غيرك، عليكم جميعاً أن تنصتوا وتستمعوا لي فقط ياحيوانات».

وبعد سخط الموظفين على رئيسهم واستيائهم منه وبعد استبدال المدير بمدير جديد تهلل لتعيينه الموظفون .

يلتقي المدير الجديد بموظفيه مستعرضاً لهم السياسة الجديدة القائمة على اجتثاث أساليب الماضي وتعهده لهم بفتح صفحة جديدة في التعامل القائم على الأدب والاحترام لينهي حديثه لهم بقوله :

«على الجميع التقيد والالتزام في حضور هذا الاجتماع ومن يتخلف ستتخذ بحقه الإجراءات الصارمة، مفهوم ياحيوانات».

هنا تتجلى قدرة القاص على التقاط التناقض بين أقوال المدير الجديد وأفعاله وهذا يذكرنا بقول الشاعر العربي :

لاتنه عن خلق وتأتي مثله

عارٌ عليك إذا فعلت عظيمُ

إذ إن المدير الجديد الذي تهجم على ممارسات وسلوك سلفه لم يلبث أن كرر ماسبق أن انتقده ووعد بالكف عنه وهو عار أكثر من عظيم!

ومن أجمل ماقرأت في المجموعة القصة التي تحمل عنوان «يشرك بعد الصلاة» التي سبق نشرها في صحيفة «الأيام» ويتلخص محتواها في أن أحد المواطنين واسمه ماهر لديه متابعة في إحدى المصالح الحكومية لم يفلح في اللقاء بالموظف المعني بالمعاملة وبعد أسبوع من الذهاب والإياب يقابل هذا الموظف المتخصص وعندما يعرض عليه أوراقه ينهره الموظف بغلظة قائلاً :

«ليس وقت موضوعك هذا عد لي بعد أسبوع» وبعد انتظار طويل وبعد أن أنفق ماهر مبالغ طائلة على الإقامة في الفنادق والأكل في المطاعم وفي اليوم المحدد يذهب ماهر لمقابلة الموظف المتخصص وبعد عراك شديد مع المتزاحمين على مقابلة الموظف يفاجئه الأخير بأن موضوعه بحاجة إلى إجراءات ووقت «والآن وقت الصلاة وبعدها سأذهب إلى السوق أشرك» لكن التوسل الذي أبداه ماهر واستعداده بالقول :

«أي شيء مطلوب مني فأنا على استعداد وتحت أمرك وجاهز للمساهمة» وهو ماجعل الموظف يبتسم هامساً في أذن ماهر «عليك أن تأتي في المساء إلى المنزل بعد الفطور فما يجوز الآن وأنا صائم».

السخرية تتجلى في معظم إن لم يكن كل قصص المجموعة فنلمسها في قصة «احتفال مهيب» وكذا في «إحباط عمل إرهابي» و«أحدث طريقة للعلاج» وغيرها ، وجميعها تتناول عدداً من السجايا والممارسات السلبية المتأصلة في سلوك بعض البشر، التي أصبح استئصالها من الأمور المستعصية والمستحيلة.

ولاتخلو المجموعة من بعض الملامح الرمزية التي أراد القاص من خلالها أن يمرر مجموعة من الأفكار ارتأى أن عرضها رمزيا يمنحها قدراً من الجمالية ويسمح له بإيصال الفكرة إلى القارئ ومن ذلك قصة «تأخر في النمو» و«بصيص من نور» و«تحذير رسمي».

المجموعة القصصية تحتوي على عدد من القيم الأخلاقية والغايات الاجتماعية والسياسية التي ترمي إليها ولربما غلبت هذه الأهداف وتلك القيم على الجوانب الفنية في كثير من الأحيان مما أفقد المجموعة الكثير من الجماليات التي كان يمكن أن تجعل المجموعة أكثر تفوقاً عـلى نفسها.

كل هذه المآخذ يمكن التغلب عليها من خلال المزيد من القراءة لكبار كتاب القصة القصيرة وأساطينها، كما يمكن للمؤلف تزويد معارفه وخبراته ومهاراته من خلال الاطلاع على الكتابات النقدية لفن القصة القصيرة وعلى مقومات وقواعد العمل القصصي التي تتناول شروط القصة القصيرة ومكوناتها وعناصرها وفنياتها، وهذا مايمكن أن يساعده على إحراز المزيد من التفوق في عالم الكتابة القصصية.

أتمنى لعبداللاه المزيد من التفوق والتقدم في الكتابة القصصية، كما في الكتابات الشعرية ومانزال بانتظار المزيد منه.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى