المشهد الأخير لوطنٍ يحتضر

> علي غالب الصبيحي:

> خلاص لم نعد نسمع غير (قح بم)، ولم نعد نرى غير الدم والدخان والنار، ولا نلمح على الشاشات وفي الصحف غير : قتل - مقتل - جرح - اغتيال - انفجار - مفخخة - عبوة ناسفة - اختطاف - انتحار - محتجون يغلقون - مواجهات عنيفة - هروب سجناء،و.. و...و .. وغيرها من المفردات (الحمراء) التي ما اجتمعت على وطنٍ إلا قتلته.
ترعرعنا وتفتحت مداركنا ونحن لم نزل دون عمر الزهور ووجدنا أنفسنا نردد طابور الصباح في مدارس هذا الجنوب السليب : لنناضل من أجل الدفاع عن الثورة اليمنية، وتنفيذ الخطة الخمسية، وتحقيق الوحدة اليمنية.. ولكم أنشدنا وهتفنا بكلمات عبدالله هادي سبيت : عليك مني السلام يا أرض أجدادي، ففيك طاب المقام وطاب إنشادي، ومضت الأيام وسارت عجلة الحياة و(الرفاق) ومن تولوا أمر البلد بعد خروج بريطانيا وما تلاها يسيرون بنا - بغير هدى ونحن لا نعلم - إلى طريق السراب، لحتى تلقَّنا، بل كانوا يلقّنوننا في المدارس ونحن صغار ويشبعوننا شعارات غرام بالاشتراكية وبقادة النظرية
الاشتراكية، وما يزال في تلافيف ذاكرتي مخزوناً من ذلك الذي تعلمته في بداية الثمانينيات وأنا لم أزل طفلاً صغيراً في الصف الثالث عن (ناد جدايا كروبسكايا رفيقة الحياة والسلاح لفلاديمير إلتش أوليا نوف لينين)، والأمر لا يختلف في الشمال، بل إنه كان أسوأ من الجنوب، فتمضي الأيام وتسير عجلة الحياة، وفجأة وعلى حين غرة ننام ونحن أطفال ونستيقظ ذات صباح من صباحات (مايو) المشؤوم وقد شبنا وشاخت أيامنا.. نعم استيقظنا نصفق مغرورين لاتفاق(النفق) المظلم، ولم ندر يومها أن ذلك اليوم بداية لتبخر الحلم،ولسنين عجاف ستختزل ما تبقى من العمر حتى خابت أحلام وآمال الطفولة، وخابت أنشودة الشاعر سبيت فلم يطب الإنشاد،ولم يطب المقام.
عذراً يا وطني البعيد المفتقد، فقدناك قبل أن نجدك ورثيناك قبل أن نتغنى بميلادك وما أقسى أن تكون لحظة الميلاد ولحظة الوفاة لحظة واحدة!
نعم فقدنا الوطن قبل أن نجده.. فقده أجداد وآباء امتشقوا القلم والسلاح ونذروا حياتهم ليسعدوا برؤيته محرراً فلم يتحقق ما حلموا به، بل تجرعوا مرارة السجون والتشرد ورحلوا منه قبل أن ترحل بريطانيا .. رحلت أسرة لقمان، وهنا أشعر برغبة في البكاء وأنا أستحضر شيئاً من شعر علي لقمان يناجي فيه ورقاء (حمامة) في (النمسا) حين قيل له أنها من بلاد الأندلس فأنشد وهو يتذكر وطنه (الجنوب) الذي خرج منه مكرهًا: زميلك يا ورقاء حيران تائه فإن كانت في تيه الغريب فأنشدي وبين ضلوعي خافق طال همه على وطنٍ فيما يعانيه مفرد نعم رحلت أسرة لقمان، ورحلت أسرة باشراحيل ورحل الآلاف من الجنوب والأمر نفسه في الشمال، حتى لكأن إنسان هذا البلد قد كتب عليه أن يقضي عمره في عناءٍ دائم.
لك الله يا وطني الجريح المسلوب، لك الله ياجنوب، لك الله يا عدن، وكم أخشى عليك يا صنعاء أن تصحي من سكرة ونشوة الانتصار الزائف في لحظةٍ لا ينفع فيها الصحو وعندها لن يسود غير الخراب.
عذراً يا وطني، هي غربة الروح التي تختزل العمر وتحيل ربيع أيامه إلى خريف.. عذراً يا وطني إن طال نحيب حروفي عليك، وقد كان آخر عهدي بك لحظة أحتساء فنجان شاهي في سكنٍ طلابي، أو لحظة الحصول على حبة دواء وكرسي في مدرسة تجمع بين الغني والفقير في أيامٍ رائعة من زمن جميل ذهب ولن يعود، وحل محله زمن العبث والاستهتار والضياع وموت الضمائر.
يا دعاة الفوضى والهمجية شمالاً وجنوباً لقد أستمرأتم وتماديتم في صنع وإشعال الحرائق، وتلذذتم بمشاهد الدماء والدمار.. فعودوا إلى رشدكم قبل ألا يكون شمالاً ولا جنوباً وتصبحون على وطن خراب وعلى الدنيا السلام.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى