هشام العملاق

> د. هشام محسن السقاف:

> الحالة الباشراحيلية بنكهة الحبر والورق هي حالة فريدة في الصحافة العدنية واليمنية، لها مقوّم تاريخي وموضوعي في سياق النشأة والتألق يثمران معطىً إيجابياً بقوة الإرادة الذاتية للسيد محمد علي باشراحيل المؤسس، والسائر بخطى ثابتة في مملكة صاحبة الجلالة (الصحافة)، أولاً بصحيفة "الرقيب" ثم «الأيام» عام 1958م التي اكتسحت شارع الصحافة العدنية منذ لحظتها الأولى.
وزمن الباشراحيل الأب والمؤسس هو زمن الصحافة العدنية في ظل الإدارة البريطانية، كتحدٍ تاريخي ونتاج ما بعد الحرب الكونية الثانية، يتخلق من المتاح ديمقراطياً - رغم ضالته - ليعبِّر عن مكنونات الحقيقة ونبضها في عدن المدينة الدولة (كوزموبوليتيك) دون أن تغمط - الصحيفة - الحياض الوطني والقومي العام.
والذين كتبوا عن صحافة زمان بضبابية الإيديولوجيا كانوا خداماً بجدارة للتسطيح الإملائي للوقائع بقوة السياسي الحزبي بطبيعة الحال، فلم يقرأوا المرحلة بعقل الباحث المحايد، ومن ثم أغمطوا إرثا تاريخياً نضالياً بوميض الحرف كانت قد صاغته عبقرية الأب المؤسس محمد علي باشراحيل بمهنية الحرف وشرفه، ولذلك حافظت الصحيفة على مكانة الجذب الجماهيري دون أن تنساق إلى إكليشات المنشور السياسي، إلا أن وقائع الزمن الستيني بتجلياته الثورية لا تخلو من أثمان باهظة داخل الذوات والمكونات السياسية الوطنية حيث يعترك الوطن بابنائه والكل يدعي وصلاً بليلاه (الثورة)، بينما يفسح الإنجليز مكاناً للإخوة الأعداء للاقتتال في شوارع وأزقة الشيخ عثمان والمنصورة قبل الانتقال إلى دار سعد، ويصاب الكل الوطني بمقتل: القاتل والمقتول، المنتصر والمهزوم.. إنها فاجعة تصيب الكليات الوطنية دون أن يفقه ذلك المتقاتلون، وفي هذا الوقت المضطرب كانت دوائر «الأيام» تكبر وتتسع في مياه الصحافة العدنية بمنهجية الأداء الملتزم ضمن ثابت مهني لا فكاك منه، دون أن يجنبها ذلك شظايا تأتي من هنا أو هناك قبل أن تؤول أوضاع الصحافة العدنية إلى خانة المحظور في أول عهد وطني بعيد الاستقلال في نوفمبر 1967م.
وكان الفتى الباشراحيلي المتألق هشام باشراحيل، ونحن بصدد استشراف مآثره على هامش الذكرى الثانية لرحيله المؤسف في 16 من يونيو 2012م، قد تشَّرب الصنعة من أربابها في وقت مبكر، ورأى صعود نجم «الأيام» في سماء الصحافة وتميزها من خلال الخبر، استقباله من مصادره وإعادة صياغته وتوظيفه، واحترام الصحيفة لعقل القارئ ضمن توليفة عقد غير مبرم بينها وبينه من الحفاظ على مواعيد الإصدار والتوزيع إلى الالتزام بالمهنية العالية في التغطية الخبرية وإفساح مساحة للرأي يتنافس فيها ذوو الأقلام رفيعة المستوى من كتَّاب تلك الفترة.
وتشاء الأقدار أن يرى الوالد الكبير محمد علي باشراحيل تباشير عهد جديد في البلاد بالوحدة اليمنية عام 1990م متزامناً مع الإصدار الثاني للصحيفة الأثيرة على قلبه، يصدر بقلمه ذلك الإصدار ثم يسلم الرأية لولديه هشام وتمام لمواصلة السير في درب مهنة المتاعب، ليحافظ الناشران بسحنة وقالب «الأيام» كما عهدها القارئون في الستينات، من الترويسة والأبواب الثابتة وحتى الحجم المعتاد دون إهدار الكثير من الورق مع الاحتفاظ بالمضامين التي دأبت عليها الصحيفة قبل انقطاعها القسري عام 1967م ليتزاحم على صفحاتها كبار الكتاب أمثال أبو بكر السقاف وعمر الجاوي والقرشي عبدالرحيم سلام، وعبده حسين أحمد وسعيد عولقي وغيرهم.
كان هشام وفريقه يجتازون بالصحيفة حدود القراءة العادية إلى القراءة الواعية التي ما تلبث أن تتحول إلى طاقة حراكية في نفسية القارئ.. ولعل في المحفزات التي يسَّرت الاستجابة الإيجابية لما يعتمل على صفحات «الأيام» ذلك الظلم الاجتماعي والسياسي الذي عانى منه الجنوب بصفاقة الممارسة الدنيئة لسلطة ما بعد حرب 1994م الظالمة، دون أن تسدل الصحيفة الستار عما يئنُّ منه المواطنون في الشمال، بينما كان بإمكان هشام وصحبه أن يركبوا الموجة الهادئة بعيداً للعاصفة، ولكنه أبى إلا أن يركب الصعب لجزء من الرسالة الأخلاقية للصحافة. ولم تكن حدود الرجل العملاق الحبر والورق والألوان بقدر ما كان كاريزما اجتماعية تختطُّ لنفسها خطاً واضحاً لنصرة المظلومين ليس على صفحات «الأيام» فقط، وإنما إلى المدى الذي تصل إليه تأثيراته الساعية بين أروقة الحاكمين خدمة للمظلومين، ولذلك تحول البيت المتواضع، بيت الباشراحيل ـ والمشبه به دائماً كـ "بيت أبي سفيان من دخله كان آمناً" ـ إلى ملتقى لكل ذي حاجة، وغدت «الأيام» وسيلة نهوض أجتماعي وسياسي للشارع في الجنوب، وهو ما عرضها لأذى كثير من الحكم الذي ضاق بها ذرعاً كلما زادت جاذبيتها وكثرت شعبيتها.
لقد أضحت «الأيام» عنواناً بارزاً لمدينة عدن العريقة التي أصابها الضيم طويلاً، ولم يكن باستطاعة الباشراحيل هشام وتمام ومن وراءهم فريق عمل جدير بالاحترام أن يقفوا عند الجدار قانعين بما تحقق أو التفريط ببعض من المبادئ لتجنب عاصفة هوجاء، وكان هشام في الطليعة دائماً باستطاعته خلق رأي عام واصطفاف مجتمعي على شاكلة ما شاهدناه أثناء المحنة الأولى بصنعاء، حيث كان التهديد مباشراً بالتصفية الجسدية بعد استدراج هشام إلى هناك بمؤامرة دنيئة، وما أفرزه ذلك من مشهد للبسالة تجلت في الفدائي البطل أحمد عمر العبادي المرقشي، ثم ذلك الالتفاف الجنوبي في صنعاء غير المعهود حقاً، الذي ضم فرقاء سياسيين وحزبيين وشخصيات اجتماعية وعسكريين وشباب، مثلوا الحالة الجنوبية المفقودة بذلك الموقف الموحد والمدافع عن صاحب «الأيام» المحاصر في منزله بصنعاء، مما فرض حالة استباقية أفشلت مخطط الحاكم في القضاء على الرجل الكاريزمي وإخراجه من حصاره عنوة والعودة إلى عدن بخروج مشرف سيذكره الناس طويلاً، دون أن يثنى ذلك الحاكم من تنفيذ الجزء البديل من خطة إسكات «الأيام» وأصحابها في عدن بمهاجمة بيت الباشراحيل بالرصاص والقذائف وبعشرات الجنود والمصفحات واقتياد هشام ونجليه وآخرين إلى السجن، الذي غدا حالة أخرى بوجود شيخ الصحافيين فيه، يعلو هشام حقاً على القضبان الحديدية ويتحول السجن إلى حالة تثويرية تحاصر السجَّان وتجعله سجيناً في سجنه.
لا نعدو الحقيقة ونحن نختم جزءا من السيرة العطرة لهشام محمد علي باشراحيل بالقول: إن «الأيام» كصحيفة ودار أصبحت وجه "عدن" الثاني، وهو ما لم يتسنَ للكثير من الصحف التي صدرت بعد الاستقلال وبعد الوحدة على السواء، وسوف يندهش الزائر لعدن أن تكون «الأيام» معلماً من معالم عروس البحار وملمحها العصري الناطق إلى جوار معالمها التاريخية الأخرى.
وكان طموح الراحل الكبير كبيراً، بحجمه عندما شرع البناء مع أخيه والأبناء لدار «الأيام» الضخم ليكون ضاماً بين جدرانه ليس المطبعة والأوراق والحبر وإنما أيضاً مركز للدراسات والبحوث الذي يحفظ لهذه المدينة المتألقة بتنوعها الثقافي المذهل تاريخها الذي يراد له أن يطمس.. رحم الله هشاما باشراحيل.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى