القرآن ومعجزاته

> محمد حسين دباء:

> ونحن نحلق في سماء قصة يوسف (عليه السلام) وعرفنا الإيجاز في مشهد (الرؤيا) ومشهد (ما كان بين يوسف وإخوته) سنأخذ في حلقة اليوم مشهد (إخراج يوسف من البئر). “وَجَاءتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَـذَا غُلاَمٌ وَأَسَرّوهُ بِضَاعَةً وَاللّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ”، بهذه الآية الكريمة يصف الله تعالى إخراج يوسف من البئر، بواسطة بعض المسافرين من التجار، وقد جاء ذكر إخراج يوسف من البئر موجزاً، مختصراً، لكنه إيجاز مذهل يغني عن السرد الطويل والشرح المفصّل.
فقد تتالت الأفعال في الآية الكريمة تتالياً سريعاً، رشيقاً، بالفاء العاطفة التي تفيد ترتيب حدوث الأفعال وتعاقبها دون فارق زمني يذكر، وهذا معناه أن المسافرين لما صاروا على مقربة من البئر أسرعوا في إرسال من يجلب لهم الماء “فأرسلوا واردهم”، فأسرع هذا بدوره ملبياً حاجتهم إلى إحضار الماء بسرعة “فأدلى دلوه” وهنا تختفي (الفاء) “قال يا بشرى” ولم يقل الله سبحانه وتعالى (فقال يا بشرى ) ذلك أن البشرى تقتضي المفاجأة، وهذا ما يتحقق بحذف الفاء لتأتي العبارة مفاجئة، للدلالة على البشارة.... وتأمل - ضمن السياق - قول الوارد مستبشراً: “فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَـذَا غُلاَمٌ”.
وقوله تعالى عن المسافرين الذين وجدوا يوسف (عليه السلام): (سيّارة) وهي صيغة مبالغة من اسم الفاعل، إنما تدل على أن شأنهم كثرة السير، فهم تجار تعودوا السير في هذا الطريق، وهم بحكم كثرة سيرهم على هذا الطريق يعرفون البئر، يدل على ذلك سرعة إرسالهم الوارد حال اقترابهم من البئر (دلت على ذلك الفاء العاطفة) دون وجود ما يشير إلى أنهم وجدوا مشقة في اكتشاف هذا البئر، و ربما يوحي هذا بغير ما ذهب إليه بعض مفسّري الآية من أن إخوة يوسف ألقوه في بئر بعيدة عن طريق المارة، وأن هؤلاء السيارة قد ضلوا طريق سفرهم، فوجدوا البئر مصادفة.
فتعودهم السير في هذا الطريق (إذ هم سيّارة) يبعد من الذهن إمكانية أن يضلوا طريقهم، وإسراعهم بإرسال الوارد لا يوحي بإيجادهم البئر مصادفة، بل ربما دلّ على معرفتهم بوجود بئر في المكان الذي وصلوا إليه.
ولنعد إلى قول إخوة يوسف عند تشاورهم في أمر يوسف: “وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ”، والفعل (يلتقطه) جواب الطلب (ألقوه)، وجواب الطلب نتيجة له، ولو أنهم ألقوه في بئر بعيدة لكان التقاط بعض السيارة إياه أمر غير وارد، بل ربما هلك قبل أن يهتدي إلى مكان وجوده أحد !!.
ويأتي الإيجاز في صورة من أجمل صوره، وأكثرها إيحاء، في قوله تعالى “وَأَسَرّوهُ بِضَاعَةً” فأما قوله تعالى: “أسرّوه” أي تعاملوا مع الأمر بسرية، فيعني أنهم خافوا أمراً ما (ربما خافوا أن يدّعي ملكيته أحد أو غير ذلك مما لا فائدة من تحديده”.
وأما قوله تعالى: “بضاعة” فيدلّ على أنهم تجّار، وربما كانوا تجار رقيق، أو أن هذا النوع من التجارة كان رائجاً منتشراً في ذلك الوقت، فاستبشروا بعثورهم على الغلام كونه بضاعة لها قيمتها وأهميتها... فتأمل كم اختزلت عبارة “وأسروه بضاعة” من المعاني والدلالات.. هذا والله أعلم
وبهذا نكتفي من الإيجاز وإن شاء الله ننتقل إلى بستان آخر ولنحلق في فضائه الواسع، سيكون في (سمو حسن النظم في القرآن الكريم)، تتابعونه في الحلقات القادمة.
كتب / محمد حسين دباء

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى