عن الكــويت وصحــافتهــا.. مجلــة العربي نمــوذجــا

> د. هشام محسن السقاف

>
د. هشام محسن السقاف
د. هشام محسن السقاف
كانت الكويت تتلمس مكانتها العربية باكراً، فقبل الاستقلال عام 1961 كان البلد الصغير في رأس الخليج يعكس تجليات الوعي العربي كما تضخه عواصم التأثير الثقافي العربي، القاهرة وبيروت وبغداد، ويتجلى الإحساس بالقضايا القومية العربية وتحديداً قضية الشعب الفلسطيني والكتابات والأشعار والمداولات إلى جانب غيرها من القضايا المحلية والعربية الأخرى.. ورغم تقليدية النظام السياسي القائم إلا أنه قد أتاح مساحة من الحرية الأدبية والفكرية وحتى السياسية للجميع ضمن ضوابط معينة تراعي ظروف البلد الصغير المحاط بجيرانه الكبار.
كان الفكر القومي العربي يتنامى تحت وهج المد القومي العربي بعد الحرب العالمية الثانية، فمن الديوانيات والمنتديات الأسبوعية إلى صدور المجلات كـ(الإيمان) و (صدى الإيمان) وحتى (كاظمة)، والتي كانت أول مجلة تطبع وتصدر في الكويت ورأس تحريرها الأستاذ أحمد السقاف، وقد تبنت القضايا العربية وتحملت تبعات ذلك وتوقفت عن الصدور بعد تسعة أعداد، أي أن المولود مات يوم ولادته، كما يقول السقاف نفسه.
لكن السقاف وعبد الحميد الصانع حفرا اسميهما في تاريخ الصحافة الكويتية كأول من أصدر صحيفة تطبع في الكويت، إذ إن صحيفة (الكويت) الصادرة عام 1928م كانت تطبع خارج الكويت، وقد أصدر الطلاب المبتعثون للدراسة في مصر مجلة (البعثة) وهي تضم بين دفتيها عبق تلك الفترة التاريخية - العربية الناهضة وأبرزت أسماء كويتية ما لبثت أن شقت طريقها في دنيا الصحافة والأدب والثقافة.
وكان الحدث الأبرز على المستوى الثقافي صدور مجلة (العربي) في ديسمبر 1958م بجهد مثابر للأستاذ أحمد السقاف وبرعاية مباشرة من سمو أمير البلاد الحالي الشيخ صباح الجابر الأحمد الصباح الذي كان حينها مديراً للإرشاد والأنباء، وهو ما يقابل وزارة الإعلام، وكان الغرض من المجلة أن تكون مجلة عربية جامعة تستطيع أن تدخل كل بيت عربي وتغطي فراغا في الفضاء الثقافي العربي بعد أفول مجلات عربية كبرى كـ(الرسالة)، وبامتياز التوزيع الدقيق والمقدرة على تجاوز الأسلاك الشائكة بين البلدان العربية لتصل إلى القارئ العربي بكلفة قليلة وبمادة ثقافية عالية وطباعة راقية.
والتزمت المجلة بمسلك ثقافي بحت بعيداً عن تقاطعات السياسة العربية، وهو انعكاس لمبدأ متبع في السياسة الخارجية الكويتية، ما أتاح للمجلة أن تدخل البيوت والقلوب معاً باعتبارها مجلة العرب الأولى بامتياز، دون أن نلحظ مِنَّةً من بلد المنشأ الذي سخر إمكانيات مادية كبير لتظهر (العربي) ببريقها المشع وبمادتها الثقافية الدسمة كما ألفناها من إصدارها الأول.
وكان الأستاذ أحمد السقاف قد كلف بالسفر إلى العواصم المهمة لاختيار هيئة تحرير المجلة، وقد شرح السقاف “قصة العربي” في مقال مطول بالمجلة نفسها في ذكرى صدورها الأربعين (تقريباً)، تلك الرحلة التي زار خلالها بغداد وبيروت قبل أن تكلل بالنجاح في القاهرة بإقناع الدكتور أحمد زكي بتولي إصدار المجلة من الكويت.
وتفنن العالم المصري في وضع خلاصة مهاراته الفكرية والعلمية في شكل ومضمون المجلة، وكان قلم زكي وأسلوبه الرائع لايكتفي بافتتاحيات المجلة التي كانت زاداً ثقافياً وسياسياً وفكرياً، لايستغني المثقف العربي عنه، فقد نوع فقرات المجلة بإبهاراته العلمية المبسطة التي أصبحت بمتناول القارئ العادي كما هي للقارئ المتخصص مادة لا غنى عنها.
وتنطبع في أذهاننا كجيل نما بنمو (العربي) واتساع نطاق شعبيتها في البلاد العربي بما مثلته من حالة تأصل قيم الثقافة العربية دون أن تنتكس بانتكاس السياسات العربية.
وكان لي شرف نيل شهادة الماجستير في الصحافة الدولية بدراسة مقارنة واستقصائية لمراحل نشوء وتطور مجلة (العربي) من العام 1958 - 1990م وأكثر ما وقف أمامه الأساتذة الروس معجبين تلك المقدرة الإعلامية للمجلة في نقل العالم إلى القارئ العربي، من خلال الاستطلاعات المصورة من الوطن العربي أو العالم إجمالاً إلى جانب الاستطلاعات الداخلية من الكويت نفسها.
وكان أن خطت يراعي أول مقال لي إلى صحيفتنا الغراء “الأيام” مطلع التسعينيات بعنوان (مجلة العربي) تناولته بأسلوب أدبي وشد رحاله من موسكو إلى عدن ليحط في يد الأستاذ صالح الصائلي المشرف على صفحة (الأدب الجديد)، وكان اعتقادي أنه من رواد الصحيفة الأوائل، قبل أن التقي به بعد سنوات - رحمه الله - زميلاً في الصحيفة وفي الجامعة، ثم يتخطفه الموت وهو في ريعان شبابه.
كانت الكويت تؤسس لعهدها الجديد عربياً منذ ما قبل الاستقلال، وكان سفيرها المعتمد إلى كل بيت مجلة (العربي)، ويتزامن الاستقلال بتأصيل النهج السياسي المعتمد للكويت باعتبارها تجربة رائدة في الخليج على المستويين الداخلي والخارجي على السواء، باعتماد الديمقراطية المرعية بدستور البلاد أساساً للحياة الداخلية الكويتية بما في ذلك الانتخابات البرلمانية، وانتهاج سياسة خارجية منفتحة على الجميع في ترسيخ مفهوم عدم التدخل في شؤون الغير الداخلية.
ولذلك شهدت الصحافة الكويتية تطوراً مذهلاً من حيث الإصدارات المتنوعة ومساحات الفكر والسياسة المعبر عنه على صفحاتها، حتى أن البعض قد اعتقد أن هروب الصحافة اللبنانية من بيروت وانكفائها أثناء الحرب الأهلية اللبنانية قد قابله انتعاش الصحافة الكويتية وانتقال الحالة اللبنانية إليها.
وكان صعباً على القارئ العربي الذي يتصفح بعناية الورق المصقول لـ(مجلة العربي) شهرياً أن يتقبل عهداً جديداً للمجلة يفرضه رحيل رئيس تحريرها الأول الدكتور أحمد زكي برؤاه المتنوعة وانتقال رئاسة التحرير للأستاذ أحمد بهاء الدين، الذي ـ دون شك ـ قد وضع بصمته الخاصة على المجلة وموضوعاتها في مجاله الأثير “المستقبليات” وإخراج المجلة من كلاسيكية معينة إلى نوع من الحداثية الجديدة المعبر عنها بقصائد صلاح عبد الصبور ورؤى إسلامية سياسية يتقبلها بهاء الدين من زاوية الاعتراف بالآخر، ممثلاً - هذه المرة - بكتابات فهمي هويدي.
وعند انقضاء فترة بهاء الدين يؤول أمر المجلة إلى كويتي من جيل الشباب المثقف هو الدكتور أحمد الرميحي، وكأن أربعين سنة من عمر المجلة كانت كافية للمثقف الكويتي أن يضطلع بدوره في إدارة شؤون المجلة العريقة.. مجلة (العربي).

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى