الأصــنج.. روح تــحلق في ســماء الــوطن

> عبدالقوي الأشول

>
عبدالقوي الأشول
عبدالقوي الأشول
سألت نفسي حين كنتُ في الطريق إلى منزله في مدينة جدة لماذا آثر الرجل البقاء في المملكة العربية السعودية الشقيقة، رغم أن العالم أمامه مفتوح لاختيار موطن إقامته القسرية في أي بلد يريد.
قلت في داخلي ربما لأن جدة تحديدًا تجعله متصلاً بوطنه ومدينته الأم عدن على أقل تقدير من باب ما يمثل له البحر ونسائمه الناس وعاداتها، أو هو مكون آخر مرده طبيعة المدينة الكفاحية التي تشرب منها فكر الأستاذ الفاضل المرحوم عبدالله عبدالمجيد الأصنج كواحد من أبرز رموز أو رواد القومية العربية وكسياسي لامع وكاتب ومفكر خصب الخيال، مرجحا تلك المقولة التي تعتبر أن للمدن صفة الأشخاص بنكهتها وطابعها وحرصها وتأثيرها الساحق على النفس.
إلا أن ما كان يساورني سريعا ما تبدد تماما من مجرد أن كنا وجهاً لوجه في ضيافته حين استقبلنا ببشاشة ملامحه العدنية الوضيئة التي تعلن عن مكنونات نفسه الرائعة وبشيء مما كان يحدثنا به بدا بكامل أناقته وحيويته رغم سنوات عمره إلا أن ذلك لم يفقده مزاياه المكتسبة من عدن مدينته الأم، عدن التي ظل يحدثنا بلهجة أهلها وبساطتهم ونبلهم ونقاء سرائرهم، كان ذلك في منتصف تسعينات القرن الماضي.. حين شرفت بزيارة السيد عبدالله عبدالمجيد الأصنج بمنزله في جدة، كنا في ضيافته أنا والزميل رسام الكاريكاتير سالم الهلالي، بعد أن واجهنا جملة مضايقات جراء ما ننشره على الصعيد الصحفي، إذ تزايد الأمر حينها بإغلاق معرض الزميل الهلالي ومنع رسوماته الكاريكاتورية من الخروج إلى العلن.
في منزله كان الحديث موزعاً بين أمور شتى إلاَّ أن وجود السياسي المخضرم الأصنج ظل شديد الصلة بمدينته الأم عدن، حتى يخال إليك أنه لم يغادرها ولو لحظة من الزمن بحكم إلمامه التام بكل تفاصيلها، في حين بدت رؤيته تجاه ما كان يدور على الصعيد السياسي في تلك الأثناء مخيباً لأي أمل من منظور معرفته اليقينية بفكر ونمط السياسيين الذين أوكلوا لأنفسهم التحكم بمصائر الآخرين.
منوهاً بما ستعانيه عدن والجنوب عموماً من قبضة هؤلاء البشعة وما سيمارس على الأرض من نظام ونفي للمقدرات وغياب أدنى التزامات الدولة تجاه المواطن الأمر الذي سيجعل عدن - حسب قوله - المدينة التي ستدفع أثمانا باهظة، بحكم طبيعة مجتمعها الحضري مبدياً عدم ثقته أيضاً بقدرة المعارضة على فعل شيء، فمعظم هؤلاء ليس لديهم قضية أكثر من التفكير بمصالحهم.
قال لنا إن الكثير من الاتصالات ظل يتلقاها تعرض عليه العودة إلى واجهة السلطة، الا إنه لا يكترث ولا يثق بهؤلاء ممن عايشهم وعرف عنهم الكثير، بل سخر من بعض المكالمات النابية التي كان يتلقاها، ولم يقم لها ولأصحابها أي وزن.
رحم الله الأستاذ عبدالله عبدالمجيد الأصنج صاحب العطاء الوفير منذ أن بدأ مؤسساً للعمل النقابي في الجنوب.. وكان من أبرز الوجوه التي صنعت فجر الاستقلال إذ هو في ذاكرة وطنه كواحد من ألمع القيادات السياسية، وأكثرها جدارة وفطنة وحنكة ونزاهة.
آثر البقاء في منفاه حتى لايخوض في أوحال السياسة التي لا يؤمن بها، المتعارضة مع قناعاته.
رحل الرجل عن دنيا الفناء، إلا أن المدرسة التي هو واحد من أبرز روادها لازالت تشكل كل حنيننا لماضي القيم والإنسانية والصدق والنزاهة.
وكم كانت تقديراته صائبة حين رفض فكرة العودة حتى مع ما كان يتنازعة من حنين جارف للوطن.. وبرحيله صارت روح أثيرية تحلق عالياً في سماء الوطن ومدينته الأم عدن المدينة التي صاغت تلك الشخصية المهذبة وثقفت ذلك العقل النير السديد، فما أحوجنا لمثل تلك الهامات الخالدة.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى