بـائـعـة الآيـسـكـريــم

> رباب محمد فرحان

> التقيت بها دون سابق معرفة، دون سابق ترتيب، كانت إنسانة متواضعة تدخل القلب دون استئذان، تحدثنا كثيرا ناقشنا جملة من المواضيع، وعندما هممت أن أنصرف أقبلت في نفس اللحظة بنت في العشرين من عمرها، يبدو من محياها الذكاء والجمال، همست في أذنها، فمدت يدها مباشرة إلى جيبها وناولتها ورقة فئة خمسمائة ريال، أخذت البنت المبلغ ثم ودعتها وانصرفت، شدني جمالها وذكاؤها وحنانها، وكأنها أحست في نفسي بعض الفضول، فقالت لي: “هذه ابنتي حبيبتي هي سبب سعادتي”. أثارت عبارتها الأخيرة في نفسي مزيدا من الفضول، فقلت: “حدثيني رجاء.. كيف يمكن أن تكون ابنتك هذه سبب سعادتك؟”.
التفتت إلي قائلة: “أتعرفين كنت على وشك أن أخرجها من المدرسة، ذلك لأني عشت ظروفا صعبة بعد حرب 1994م بين الشمال والجنوب، لأن الطرف المنتصر في الحرب أوقف رواتب كل المختفين الجنوبيين وقد كان زوجي أحدهم.. وعندما لم أستطع أن أوفر لأولادي ثياب ورسوم ومصاريف المدرسة، فقد قررت أن أخرجهم من المدرسة، وقد كانت ابنتي هذه إحداهن، وقد كانوا ستة أفراد.. لكنها استأذنتني للذهاب ليوم أخير للمدرسة حتى تودع صديقاتها ومعلماتها، وفي أثناء حفلة التوديع الحزينة سألت إحدى المعلمات التلميذة: “لماذا يريد والدك أن يخرجك من المدرسة وأنت تحصلين على أعلى الدرجات، حرام عليه فعل ذلك؟!”، وقد أجابت عليها التلميذة بانفعال “أنا يتيمة الأب”، ولم تزد على ذلك حرفاً واحداً.
مدت المعلمة يدها إلى حقيبتها وأخرجت منها خمسمائة ريال وأعطتها للتلميذة قائلة لها: لتأخذها الوالدة وتصنع آيسكريم وتبيعه عند باب المدرسة، أسوة بالآخرين.
عندما رجعت البنت إلى منزلها كلمت أمها بما حصل مع المعلمة وأعطتها الخمسمائة ريال، غضبت الأم غضبا شديدا ورفضت أخذ النقود، متسائلة مع ذاتها كيف لي أن أفعل ذلك؟!.. لم تنطق البنت ببنت شفة، وانسحبت بهدوء بعد أن أرجعت النقود لحقيبتها.. بعد صمت طويل، فكرت الأم: أنا بالفعل محتاجة للعمل وكسب النقود حتى أتمكن من الصرف على أولادي أو على الأقل سأستفيد من مبلغ الخمسمائة ريال لشراء ربع كيلو من السمك الممتاز الذي فقدنا طعمه منذ أمد بعيد، ولكنها في الأخير استبعدت الفكرة الأخيرة لأنها تقربها من منزلة الشحاتين.. وقررت أخيراً أن تأخذ النقود وتعمل بما قالته المدرسة فربما تنفرج الحالة.
وفي اليوم التالي أخذت الأم ثلاجة وذهبت إلى باب المدرسة لبيع الآيسكريم، ولكنها لم تبع شيئا..لقد أصابها الخجل، تركت ثلاجة الآيسكريم مغلقة، وظلت تتفرج ببلادة على مشهد الطلاب وهم يشترون من هذا وذاك دون أن يشتروا منها شيئاً.
عادت إلى المنزل منكسرة، متحسرة على نفسها، يائسة من الحياة، ثم استدعت ابنتها قائلة لها اذهبي غدا إلى المعلمة وأعطيها ثلاجة الآيسكريم هذه فقد اشتريتها من نقودها، وعندما أخبرت التلميذة المعلمة بما حدث لأمها ردت المعلمة: لا عليك سنساعدها على التكيف، خذي أيضا هذه المئتي ريال وأعطيها إياها مع الثلاجة وقولي لها: لتصنع الآيسكريم بشكل جيد ثم تأتي بالثلاجة مباشرة إلي ولتنتظرني هي بجانب باب المدرسة.
وعندما عادت البنت بثلاجة الآيسكريم أعطتها للمعلمة على الفور، قامت المعلمة ببيع الآيسكريم على الطلاب وأرشدتهم أن يشتروا نفس الآيسكريم من المرأة التي تقف بجانب باب المدرسة وأعطتهم مواصفاتها.
بدأت بائعة الآيسكريم تكسب من بيع الآيسكريم وتصرف على أولادها وبعد تحسن حالتهم المادية اشترت ثلاجة كبيرة وثم ثلاجة كبيرة أخرى وأصبحت توفر مبلغا كبيرا من المال شهريا.
عندما عرفت منها كل ذلك، أشبعت فضولي، هممت بتوديعها والانصراف.. لكن بائعة الآيسكريم جذبتني من يدي قائلة: لعلك تريدين أن تعرفي شيئا آخر عن ابنتي التي كانت سبب سعادتي، إنها اليوم في الثانية والعشرين من عمرها وهي تدرس في السنة الثانية في كلية الطب، وقد قالت جملتها الأخيرة بزهو وابتسامة عريضة تكسو وجهها، وفي طريقها للمغادرة التقت بامرأة عجوز وأعطتها ثلاثمائة ريال.. التفت إليها مندهشة.. ابتسمت لي وقالت: إنها جارتي كانت تعمل مع زوجي في نفس المؤسسة.
ودعتها متأكدة أن الدنيا ما زالت بخير رغم قسوة الحياة.
**رباب محمد فرحان / عدن**

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى