ولـكـنـي انـكـسـرت !

> د. علي الزبير

> (حدوث الانكسار يعني أنه كان ثمة صلابةٌ وبعضُ مقاومةٍ)... سأل نفسه وهو يضع القلم على الطاولة مركزًا نظراته على أعلى الورقة، حيث تصطف تلك الكلمات: هل في الإمكان أن تصبح هذه الكلمات نظرية علمية؟، ثم كيف ترتبت تلك الكلمات في ذهنه؟... أهي ساقطة من مخزونه الثقافي؟، ربما يكون قد قرأ ذلك أو ما يشبهه في كتاب ما... ربما؟.. ولكن لماذا يفترض ذلك افتراضًا؟، لم لا يبحث؟، لديه من الوقت ما يكفي ليس لقراءة المجلدات فحسب، بل لتصنيف القواميس الدقيقة والضخمة، فمنذ شهر أو شهور - لا يدري على وجه الدقة - صار الفراغ لديه فائضًا عن حاجته... ولم يعد لسيرورة الوقت أية أهمية في حياته، بل صار يعيش أيامه على وفق طريقة تشكلت عفويًا، ملخصها: اقرأْ أو فكرْ أو تخيّلْ حتى يغلبك النوم، ثم نمْ حتى تشبع نوما، وليس بذي أهمية أن تعرف في أي ساعة نمت أو في أي ساعة صحوت... غير أن شيئًا واحدًا لم يستطع التخلص من سطوته قبل النوم وعند الاستيقاظ... إنه ذكرى آخر حوار جمعه مع مديره في العمل، فهي آخر الذكريات المؤلمة التي يستجرها قبل النوم، وأول ما يفاجئه عند الاستيقاظ:
- أيش تظن نفسك؟... نبي الحق؟... زعيم العدالة؟... تظن أنك تبقى عقبة في طريق عملنا؟!.
- أنا ...
- أنت أيش؟ أنت لا شيء ... أنت حشرة !... حشرة ! ... حشرة !
- ......
- أنت موقوف عن العمل ... هيّا من هنا ... اخرجْ! ... اخرجْ!.
إذن، لماذا يتعب ذهنه بالافتراضات ولديه مكتبته المتواضعة.. والفراغ الذي زاد فيضانًا بعد اختلافه مع زوجته وذهابها إلى بيت أبيها مع الطفلين... حمل كرسيه... جلس أمام مكتبته... وعلى مهل بدأ البحث... لم يترك كتابًا ولا مجلةً يتوقع أن يجد فيها شيئًا عن الانكسار، إلا تصفح منها فهارسها وعناوين فصولها ومباحثها... كانت رحلته بين الصفحات مرهقه للذهن... غير أن المسألة تحولت لديه من البحث عن التسلية وتبديد الوقت، إلى نوع من الإصرار على الخروج بنتيجة... واصل البحث... قرأ الصفحات... والفصول... حتى إنه قلب صفحات بعض الروايات... لكنه لم يجنِ سوى التعب وخيبة الأمل... غادر الكرسي ليسترخي على الفراش، ليبدأ رحلةً أخرى في البحث، ولكن هذه المرة في ذاكرته... ماذا يستطيع أن يتذكر مما درسه عن الانكسارات في المراحل المختلفة من دراسته؟... تعمق في التذكر وتجميع المعلومات وربطها وترتيبها... ولكنه لم يخرج بشيء ذي أهمية... علل ذلك بتدني مستواه في استيعاب المواد العلمية... وربما لضعف التعليم في وطنه، أو لضعف قدرات المعلمين... أو لأي سبب آخر... فسلّم أنه من الممكن أن يكون العلماء قد قالوا شيئًا كذلك المعنى الذي كونته الكلمات إن كان حقيقيًا... أو تجاوزوه لأنه ليس حقيقيًا... ولم يستمر في التفكير في موضوع الانكسار كثيرًا... إذ شيئًا فشيئًا بدأت تزاحمه موضوعات وخيالات أخرى، وتفجّرت ذاكرته بوابل من الآلام... حاول الهرب منها بالعودة إلى الموضوع السابق... ولكنها دهمت كل محاولاته... وازداد التفجّر... أحس أن بابًا عظيمًا ينفتح لتنطلق منه كل ماخزنته ذاكرته من مواقف موجعة... انقلب على وجهه الأيمن... ثم على الأيسر ... أغمض عينيه... لكن الباب يزداد اتساعًا... أحس الخدر يسري في كل جسده... وحبيبات العرق... تكبر... تكبر... والباب يقذف بالمواجع كحجارة من سجيل، لتستقر على قلبه فتدميه:
- أنت أيش ؟ أنت لا شيء.. أنت حشرة.. حشرة.. حشرة.. أنت موقوف عن العمل.. اخرج .. اخرج ...!.
- أنت ضعيف.. جبان.. عاطل.. ما يشرفني أن أكون زوجة لرجل عاطل.. اخرج.. اخرج.. أنت لا شيء.. حشرة.. حشرة.. حشرة ....!.
انتفض فجأة كأنّ شيئًا انفجر في صدره.. استوى جالسًا على الفراش.. تحسس صدره.. أنفاسه تتردد متقطعةً.. والعرق قد غطى كل جسده.. انغرست نظراته في نقطة واحدة وكأنّ رمشيه قد استحالا قطعتين صلبتين عجز عن بسطهما على حدقتيه.. ولدقائقَ ظلَّ يحفر بنظراته في تلك النقطة في الجدار.. غير أن وجهه بدأ يغادر جموده، وقليلاً .. قليلاً تنفرج شفتاه بابتسامة جافة، لا تلبث أن تصير قهقهةً تزلزل المكان، ويرتجّ منها السرير وكل الأشياء، ولكنه يعود فيوقف هذه القهقهة بصورة آلية، لتحل محلَّها خطوط الغضب الذي استولى على كل نقطة دمٍ في وجهه.. فينهض من السرير، ويمد سبابته نحو الفراغ، ويصرخ:
- (من الحشرة؟ أنا أم أنت؟.. أنا الحشرة لأني قلتُ للخطأ خطأً؟ أم أنت الذي تقرض حقوق الموظفين والمال العام؟.. أنا الحشرة لأني رفضتُ أن أسكتَ أمام مفاسدك؟ أم أنت الذي تلدغ كل من يعترض على أخلاقك الرذيلة؟.. وأنتِ أيتها الزوجة الزائفة! .. صرتُ حقيرًا في نظرك حين أوقفوني عن العمل.. ماذا تفهمين من الحياة الزوجية؟.. فلوس؟.. ذهب؟.. هدايا؟.. تريدين أن أكون مثل فلان وفلان وفلان...، الذين صاروا مدراء ومشرفين وأثرياء،... لو كنتِ تفهمين شيئًا عن الضمير والأخلاق، لحدثتك كيف داس أولئك على ضمائرهم وأخلاقهم.. وكيف تاجروا بزملائهم من أجل أن يصلوا إلى ما وصلوا إليه.. تريدين أن أكون مثلهم؟ .. لا، لا، لا ااااا ...).
وركل في الفراغ بكل ما بقي في قدمه اليمنى من قوة،.. ثم هوى بظهره على السرير.. وراح جسده يسبح في عرقه الحار المتدفق.. عشرات الدقائق مرّت وهو مستلقٍ بين الحياة والموت.. لا شيء في جسده يتحرك إلا صدره المتهدّج.. وذهب خياله في رحلةٍ صامتةٍ بعيدًا.. بعيدًا.. وفي وسط هذا الترقّب الذي تقمّص الأشياء والجدران والفراغ، خرجت من فتحةٍ متيبسة في أعلى الجسد المسجّى كلماتٌ خافتةٌ ظلت تحوم ببطء في الفراغ:
- ولكني انكسرت !.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى