المتوكل.. نصير القضية الجنوبية

> عبدان دهيس

> تميَّز السياسي البارز والمفكر الكبير الشهيد د.محمد عبدالملك المتوكل بالحكمة ورجاحة العقل والغيرة على الوطن، وانحيازه إلى قضايا الناس، ومناصرة المظلومين والمقهورين والمضطهدين، ولم يعرف عنه طيلة حياته أنه كان على نقيض هذا السلوك الأخلاقي والإنساني الرفيع، وكرسّ كل مواقفه وكتاباته وعلمه وتجاربه من أجل انتصار الحق وهزيمة الباطل، ولم يخف في الله لومة لائم، وقد كان ناجحاً ويشهد له بالنزاهة في كل الأعمال والمهام والمسؤوليات الوطنية التي تحملها من سنوات بعيدة.
لقد حزنت كثيراً لاغتيال هذه الهامة الوطنية الكبيرة والعملاقة، والشخصية الفذة الرائعة، وهو الرجل المسالم، الذي لم يؤذِ أحداً، والمفكر والكاتب الحصيف، عاشق المدنية والتحضّر، المتحرر من الأفكار البالية، الذي أثرى قلمه الصحافة الوطنية، بآرائه الجريئة، ومواقفه الواضحة، التي لا تقبل المهادنة ولا المراوغة السياسية، ونال بسببها ما نال من المتاعب والأذى السياسي والنفسي أيضاً، منذ الستينات، ولم يتوقف عن الكتابة وتبيان مواقفه علانية، حتى لحظة استشهاده برصاصات غادرة اخترقت جسده النحيل.
ليس هذا فحسب، بل ظل حتى آخر لحظة في حياته منخرطاً في الجهود الوطنية والشعبية والسياسية وفي نشاط منظمات المجتمع المدني لإخراج البلاد من المحنة السياسية التي تعيشها، والمخاطر التي تتهددها، فكان من ضمن المبادرين بالدعوة مراراً لجميع الأطراف المشاركة في العملية السياسية الانتقالية لتجاوز خلافاتها، والتقريب بين مكوناتها، والإسراع في تشكيل الحكومة، والإبحار بالوطن إلى بر الأمان، والشروع لتأسيس دولة النظام والقانون والعدالة والمساواة.
لقد عرفت الشهيد المتوكل من سنوات بعيدة عبر الراحل الوطني الكبير - عطر الذكر - المناضل عمر عبدالله الجاوي، حيث جمعتني به لقاءات عديدة، في مجلس الجاوي بصنعاء، وأيضاً في منزل الشهيد الصديق جار الله عمر، بعد أن عاد الأخ جار الله من القاهرة، بعد النزوح القسري إثر حرب 1994م الظالمة على الجنوب، وكم كان د. محمد عبدالملك المتوكل يتألم، وهذا للأمانة والتاريخ، حينما عرف أن الصحفيين والعاملين في صحيفة (صوت العمال)، التي كانت تصدر من عدن، بدون مرتبات منذ يوليو 1994م، وأنهم ظلوا لسنوات طويلة على هذا الحال المأساوي، الأمر الذي جعل الشهيد جار الله عمر يتحفز - آنذاك ـ لمتابعة هذه القضية الإنسانية (قضية صوت العمال) مع رئيس الوزراء حينها د. عبدالكريم الإرياني، وتواصلت متابعته أيضاً مع عبدالقادر باجمال الذي تولى رئاسة الحكومة خلفاً للإرياني، لكن كل تلك الجهود الصادقة تعثرت ولم تحل القضية، لأن من كان على رأس السلطة ونظام الحكم لا يريد أن تحل هذه القضية، وانتقموا من (صوت العمال) شر انتقام، وفعلوا لاحقاً مثله مع صحيفة “الأيام”، وفعلاً مرت أكثر من (8) سنوات عجاف وصحفيو وموظفو (صوت العمال) بدون مرتبات، وبعدها أحيلوا بالجملة إلى ما يسمى بـ(صندوق الخدمة المدنية) كعمالة فائضة، ومن ثم إلى (التقاعد القسري) بمرتبات زهيدة، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله.
وللشهيد المتوكل مواقف واضحة تجاه (القضية الجنوبية) يعرفها الجميع في (الشمال والجنوب) دون استثناء، بمن فيهم (رأس السلطة).
فلم تخلُ كتاباته مطلقاً - وبكل وضوح وشجاعة - من تناول هذه القضية، وما تعرض ـ ويتعرض ـ له الجنوب منذ حرب صيف 1994م، من نهب لثروته وأراضيه، وتدمير منظم لمؤسساته وتسريح حاقد لكوادره المدنية والعسكرية والأمنية، والرمي بهم في البيوت، كما إنه صاحب موقف معروف تجاه ما تعرضت له صحيفة “الأيام” الأهلية الحرة المستقلة من إيقاف قسري وتدمير ونهب آلات وأجهزة مؤسستها، والاعتداء الوحشي بقوة السلاح على مبانيها في (عدن وصنعاء) على حد سواء، واعتقال وسجن رئيس تحريرها الجهبذ الأستاذ المرحوم هشام باشراحيل ونجليه، ومنعه من السفر للعلاج أكثر من مرة، وإرجاعه من مطار عدن وتقييد حريته، واصطناع عشرات القضايا الواهية والزائفة له أمام المحاكم، فكان الشهيد المتوكل من أوائل من كتب متضامناً مع صحيفة “الأيام”، مستنكراً ما تعرضت له من مضايقات أمنية واعتداءات مسلحة، وتعسف ونهب، ولكن الحاكم حينها كان لا يصغي مطلقاً لصوت العقلاء والحكماء، وظل على عنجهيته يمارس جبروته لإسكات الأصوات وقمع الحريات والتعدي على حقوق الإنسان، فلم تهمه مصلحة البلد، ولا مصلحة مواطنيه.
وللمتوكل كتابات جميلة ورائعة في صحيفة “الأيام” حول الكثير من القضايا الوطنية، لقد كان الشهيد المتوكل صاحب مواقف وآراء واضحة بالدعوة لحل (القضية الجنوبية)، ورفع المظلومية عن الجنوبيين من قبل بعض الشماليين الذين استحوذوا على كل شيء في الجنوب، من الماء حتى الهواء والتراب والشجر والحجر، كما كان ضد التمترس السياسي والحزبي والقبلي، وضد عسكرة الحياة المدنية، وصاحب مشروع حضاري مدني، لا مكان فيه للصراعات الطائفية والمذهبية، ومؤسس لقيام دولة مدنية حديثة تحترم حقوق وحرية وإرادة وكرامة مواطنيها وإنسانيتهم.
ولا ننسى هنا أنه دخل لمرات كثيرة في حالة من الشد والجذب والاختلافات العنيفة مع بعض من قيادات تكتل اللقاء المشترك بسبب مواقفه الصريحة والواضحة خاصة من تصرفات (حزب الإصلاح) ووصل به الأمر إلى تجميد نشاطه في قيادة (اللقاء المشترك) الذي يعتبر أحد مؤسسيه، ومن قبل من مؤسسي ما كان يسمى بـ(مجلس تنسيق أحزاب المعارضة اليمنية)، وكان من أبرز قياداته المؤسسة أيضاً المناضل الراحل عمر الجاوي، زعيم التجمع الوحدوي اليمني، والقياديان الاشتراكيان البارزان الشهيد جار الله عمر، وعلي صالح عباد (مقبل) - أطال الله في عمره- ومن قيادات الناصريين والبعث واتحاد القوى الشعبية وحزب الحق.
الشهيد محمد عبدالملك المتوكل كتلة متوقدة من النضال والعطاء الوطني والتضحية والاستبسال والمواقف المشهودة، لا تنطفئ جذوتها مطلقاً، وستظل كل أعماله ومواقفه خالدة، فقد كان يهابه الحاكم ومفسدو السلطة، وجهلة وحمير السياسة، لأنه كان صاحب رأي حر وشجاع وواضح، وصاحب قناعات سياسية راسخة لا تقبل القسمة أو التراجع، ولهذا تعرض لمحاولات اغتيال وتصفية عديدة، منها المحاولة قبل الأخيرة بـ(الدراجة السياسية النارية)، في صنعاء، وأصيب على إثرها بإصابات بليغة وخطيرة، كادت تودي بحياته، وظل بسببها يتردد على الأردن للعلاج إلى وقت قريب.
إن فقدان مثل هذه الهامة الوطنية والسياسية الكبيرة والأستاذ الجامعي المهاب تمثل خسارة فادحة للبلاد وللشعب في مثل هذه اللحظات الحرجة، وهي خسارة لا تعوّض، ولا يمكن لأحد أن يملأ الفراغ الذي تركه الشهيد المتوكل في الساحة الوطنية والسياسية جمعاء، فهو صاحب بصمات بيضاء في سيرة ثورة 26 سبتمبر ومن رجالها الأوائل، وما تلاها من مراحل، وفي تجربة العمل التعاوني الأهلي في الشمال، وخاصة في عهد الرئيس الشهيد إبراهيم الحمدي، وعزاؤنا أن نتمثّل أخلاقياته وسلوكه وآرائه الشجاعة ونضالاته وصدقه مع ذاته ومع الواقع الذي كان يعيشه في محيطه الكبير.. ولا نامت أعين الجبناء!.. وصبراً آل المتوكل جميعاً.. وإنا لله وإنا إليه راجعون.
**عبدان دهيس**

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى