قـتـلـوا أسـتـاذي.. اغـتـالـوا حـلـمـي

> هاجع الجحافي

> ضيق شديد يجتاح صدري، وكآبة أشد تكتم أنفاسي، وظلام دامس يخيم من حولي، منذ أن علمت الخبر الفاجعة.
يقولون ببساطة إن البروفيسور محمد عبدالملك المتوكل اغتيل في شارع الزراعة وتناثر دمه الطهور على الأرض.
إنها صدمة شديدة لي شخصيا ولكل أبناء اليمن، فالخسارة فادحة جدا والمصاب جلل، لأن المفكرين بحجم ومكانة وسمو وقدرات أستاذي محمد المتوكل لايمكن أن يتكررون ولا تنجبهم أية أمة إلا كل مائة عام.. لذا فإن رحيله خسارة لكل الأمة.
لقد كان أستاذي ومعلمي منذ عام 1991م، وعلى يديه تعلمت أصول علم السياسة وحقوق وحريات الإنسان، وقضايا الإعلام والرأي العام ومبادئ حرية الرأي والتعبير.
وفي عام 2009م شرفني هذا المعلم العظيم بأن وافق الإشراف على رسالة الماجستير التي تقدمت بها لجامعة صنعاء قسم العلوم السياسية بكلية التجارة والاقتصاد، ومعروف عنه أنه يرفض الإشراف على الكثير من الرسائل التي تعرض عليه لأسباب مهنية وأكاديمية يلتزم بها هذا المفكر البارز.. وقد كان عنوان رسالتي: (أثر الاحتجاجات في المحافظات الجنوبية على السياسات العامة في الجمهورية اليمنية).
كنت أذهب إليه في منزله بشارع الزراعة خلف صيدلية غابر، ويستقبلني بتواضع العظماء والمفكرين والنبلاء، ويقدم لي الشاي أو القهوة بنفسه، ثم نتناقش في رسالتي العلمية ويزودني بالملاحظات والأفكار القيمة.. ولا أنسى أيضا ماقدمه لي من اهتمام المشرف الثاني أستاذي الدكتور عبدالله الفقيه والذي كان يجل كثيرا الشهيد المتوكل.
وكنت في كل مرة أتناقش مع الشهيد المتوكل في الأوضاع العامة وبالذات أوضاع الجنوب وممارسات القمع والانتهاكات التي تقوم بها السلطات ضد المواطنين.. كان ـ رحمة الله عليه - من أشد المتضامنين مع أبناء الجنوب ومن أصدق المؤيدين لحقوق الجنوبيين بما فيها استعادة الدولة التي سلموها عام 90م في سبيل وحدة مع الشمال فشلت قبل أن يجف حبر اتفاقاتها الأولى.
كنت ألتقيه في الجامعة وفي الشارع وفي المنتديات والندوات وأتواصل معه بالهاتف، وكل مرة أغترف ما أستطيع من مخزونه الفكري والمعرفي والأخلاقي، وأستلهم ما أستطيع من إمكانات وقدرات ومبادئ وقيم هذا المعلم المفكر الإنسان.
طوال العقدين الماضيين اقتربت منه وكان يتعامل مع كل من حوله ببساطة وتواضع جم، لا يميز أحدا عن الآخر في تعاملاته.. كان عزيز النفس ولا يتنازل أبدا عما يؤمن به لدرجة أنه رفض الكثير من المغريات والعروض التي قدمتها له السلطة لتشتري صمته فقط، كان يعمل ولا يتوقف ويذهب مشيا على الأقدام إلى الجامعة ولا يتأخر أبدا عن محاضراته وطلابه.. وفي بيته كان أبا فاضلا، وينتهج السلوك الديمقراطي مع أولاده ويترك لهم حرية تقرير مستقبلهم وقناعاتهم.. وليس غريبا أن ينجح كل أولاده وبناته كأسرة نموذجية مثالية تتعامل برقي وتتفاعل بصدق مع قضايا مجتمعها وتفهم دينها جيدا وبشكل منزه عن التعصب والتمذهب والتطرف الذي أضر بالكثير من الأسر.
كان (أبو ريدان) كأي مواطن يستدين مصروفات البيت من المحلات والبقالات المجاورة.. لدرجة أنه قال لي ذات مرة قبل 15 عاما أنه يستلم راتبه من الجامعة ويسلمه مباشرة لبقالة في الحي الذي يسكنه دون أن يفي ذلك الراتب بتغطية المصاريف الشهرية، وكان بإمكانه الحصول على منصب رفيع أو سيارات فارهة أو أموال طائلة، إلا أنه فضل البقاء مرفرع الهامة عزيزا شامخا قويا دون أن يقدم أدنى تنازل.
أستاذي الرجل العظيم محمد المتوكل نذر نفسه لما يؤمن به من قيم ومبادئ وعاش لأجلها ، لايعرف الحقد والكراهية وكان متحررا من الانانية.. يدافع عن الانسان إينما وجد، حتى وان كان هذا الانسان يتمنى الهلاك للمتوكل نفسه.. يؤمن بالحوار وينتهجه ولايؤمن بالقوالب السياسية والحزبية الجامدة ولا يتعصب لفكرة معينة سوى فكرة الدولة المدنية الحديثة دولة النظام والقانون والمؤسسات، بل إنه ينتقد الخطأ أينما وجد ويساند الحق أينما وجد حتى وان كان مع من يبادلونه الخصومة.
عرفته معلما وانسانا يقول الحق ولو على نفسه لا يخشى في الله لومة لائم أو عجرفة غاشم.. يمتلك قدرة فائقة على تشخيص المعضلات السياسية وتبسيط فهمها، مبتسم دوما ومتفائل بأن الحق والحقيقة سينتصران على ما سواهما ذات يوم.. كما أنه كان من أشد المناصرين لقضايا المرأة وحقوقها ويؤمن أيضا أن الشباب هم عنوان الحاضر والمستقبل، وينتقد السياسات الصنمية للقادة والسياسيين والحزبيين والذين يعيقون الشباب عن القيام بدورهم.
مهما كتبت عن هذا الاستاذ والمعلم والمفكر العظيم فلن أفيه حقه ، ولا أملك إلا أن أقول - والدمع ينساب من عيني - مثلك أيها الاستاذ الفاضل لن يموتوا ابدا لانك تسكن وجداننا وتسري في عروقنا وتعشعش في عقولنا.. ستبقى ذلك المصباح الذي ينير دروب ظلمتنا الطويلة، نهتدي على وهجه المتدفق من اطراف المستقبل الذي نحلم الوصول اليه، هناك حيث تنتظرنا متربعا عرش المحبة والتسامح والتواضع والمعرفة والسمو والحوار.
سنظل نقاوم الطغيان والظلم اينما وجدا متسلحين بقيمك واخلاقك وافكارك، ننحت في الصخر كي نصل الى مدينتك الفاضلة التي كنت تحلم بتحقيقها لكل الناس دون استثناء.
ثق ايها الراحل الخالد المعلم الشهيد محمد عبدالملك المتوكل أن الذين وجهوا رصاصات الغدر والإجرام نحو جسدك وأراقوا دمك وازهقوا روحك السامية سيعضون اصابع الندم والخسران عندما يعرفون غدا انهم ارتكبوا ابشع جريمة في حق اعظم انسان خسرته كل الأمة.. لأنني أثق أنهم يجهلون مكانتك وعظمتك، يجهلون انك كنت تبحث عن وطن آمن للجميع بمن فيهم هؤلاء القتلة وقطاع الطرق من المغرر بهم أو من المستأجرين لتوزيع الموت ومصادرة عقول الأمة.
أما الذين قرروا التخلص منك بهذه الطريقة فلن يفلتوا أبدا من وجع الضمير وعقاب الخالق عز وجل في الدنيا، ولن يحققوا ما يريدون لأن دماءك الطاهرة أمانة في أعناقنا جميعا، ولن نسمح لهؤلاء الطغاة أن يمرروا مخططات الفتن والفوضى والصراع وإزهاق الأرواح وإراقة الدماء ومشاريع الانتقام والفوضى، وسيحاسبهم الشعب ذات يوم.. ومثلك لن يموت بل سيبقى مشعل أفكارك متوهجا فوق اكتاف الالاف ممن تتلمذوا على يديك.
دمك لن يذهب هدرا.. وهذه المرة لن يسكت الناس.. مطلوب القبض على الجناة، والإجابة عن السؤال:من الذي سمح لدراجات الموت النارية أن تعاود نشاطها من جديد.. وأين اللجان الشعبية؟ وأين أنصار الله ولماذا لم يتم تأمين تلك المنطقة والمناطق المجاورة!؟ أم أن هذه الجريمة النكراء ستمثل ثغرة واختراقا وتحديا أمنيا لأنصار الله أنفسهم وعجزهم عن تحقيق تأمين حقيقي لشوارع وتقاطعات الامانة؟ بل اننا قد لا نستغرب ان نسمع من يسعى لالصاق التهمة بمن يتولون حماية وتأمين الشوارع من اللجان الشعبية !!!.
سحقا للقتلة والمجرمين والارهابيين والمرجفين في الارض، سحقا لدعاة العنف الفكري والمذهبي وقوى التكفير والتطرف، وإلى جنة الخلد ايها الاستاذ والمفكر والمعلم الراحل الشهيد محمد عبدالملك المتوكل.. ولتنم قرير العين مرتاح الضمير، ولا نامت اعين الجبناء الخونة الماكرين.
وصادق العزاء والمواساة والمشاطرة في الحزن والأسى لأفراد أسرته جميعا.. داعيا المولى عز وجل ان ينزل عليه الرحمة والمغفرة ويسكنه جنات تجري من تحتها الأنهار مع الشهداء والصديقين، ويلهم اهله وذويه وكل ابناء الشعب الصبر والسلوان ..إنا لله وإنا اليه راجعون.
**هاجع الجحافي**

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى