دبيب الخمرة في نسيج الإبداع الشعري (2 – 2)

> د. علي الزبير

>
د. علي الزبير
د. علي الزبير
الخمرة مصدرًا للنشوة:
يوصف الشعراء بأنهم أرهف فئات الناس إحساسًا، وأخصبهم تخيلاً، ووسيلتهم في إظهار هذه القدرات والمزايا اللغة والبيان، وإذا كان هذا في الحالات الاعتيادية، فإن كثيرًا من الشعراء يصرحون بأن أخيلتهم تتجاوز كل الحدود حين تدبّ الخمرة في أجسادهم، على أنه لا يُشترط أن يكون شعر الخمريات نتاج لحظة السكر، بل إن النقاد العرب كثيرًا ما يصفون الشعر بأنه صناعة؛ ومعنى ذلك أن للعقل والفكر نصيبًا في تكوين العمل الإبداعي، وهو ما لا يتأتّى للمبدع إذا دبت الخمرة إلى عقله فصار (يحسب الديك حمارًا)، ولكن ثمة شعراء يحدثوننا عن إحساساتهم بالنشوة وانطلاق أخيلتهم تحت تأثير الخمرة؛ فيخبرنا الشاعر الجاهلي المنخّل اليشكري كيف تألّقت نشوته في تلك اللحظة حتى تصور نفسه ملك الحيرة (النعمان بن المنذر) صاحب القصرين المشهورين (الخورنق) و(السدير)، وإذا غادرته النشوة عاد إلى حقيقته راعيًا:
فإذا شربتُ فإنني
ربّ الخورنق والسديرِ
وإذا صحوتُ فإنني
ربُ الشُويهةِ والبعيرِ
ونجد الشاعر المخضرم حسان بن ثابت – رضي الله عنه - (صدر الإسلام) يوافق سلفه المنخّل في إحساس المبدع في حال النشوة بأنه يتربع على قمة الهرم الاجتماعي، ويزيد على ذلك الإشارة إلى ما تُسبغه الخمرة على شاربها من الشعور بالجرأة والشجاعة، فيقول:
فنشربها فتتركنا ملوكًا
وأُسْداً ما ينهنهنا اللقاءُ
وهذا الأخطل يظل يشرب ويشرب حتى يغدو أميرًا على أمير المؤمنين نفسه:
إذا ما نديمي علّني ثم علّني
ثلاثَ زجاجاتٍ لهنّ هديرُ
خرجتُ أجرّ الذيلَ تِيهًا كأنني
عليك - أميرَ المؤمنين - أميرُ
ومن الطريف أن نشير هنا إلى ظاهرة أسلوبية تبدو بارزة في كثير من شعر الخمريات، تتمثل في الإكثار من فعل الأمر؛ من مثل (اشرب)، (اسقني)، (خذها)، (أديرا)، (بادر)، وإلى ما شابه ذلك من الأفعال؛ ولعل ذلك يأتي انعكاسًا مباشرًا أو غير مباشر للإحساس بالاستعلاء في حال النشوة.
بين امتلاك النفس والعبثية
وفي هذا الباب يمكن الإشارة إلى طائفتين من الشعراء تتباين أحوالهم في أثناء معاقرة الخمرة، أما الطائفة الأولى فهم الذين لا يستسلمون لشهوة السكر إلى الحد الذي يفقدون معه كرامتهم، أو يخدشون أعراضهم، ومن هؤلاء الشاعر الفارس عنترة بن شداد (جاهلي) الذي يقول:
وإذا شربتُ فإنني مستنفدٌ
مالي، وعرضي وافرٌ لم يَكْلَمِ
ويزعم الشاعر أبو نواس، في بعض حالاته، أنه يتوقف عن شرب الخمرة حين يشعر أنها بدأت تدب إلى ما لا يجوز التصريح به:
فلما شربناها ودبّ دبيبها
إلى موطن الأسرار قلت لها: قفي
وعلى الضد من هؤلاء نجد الطائفة الأخرى، الذين يبلغ بهم الانغماس في اللهو حد العبث والمجاهرة بالمجون والعربدة، وفي العصر العباسي عدد كبير من هؤلاء الشعراء الذين يؤمنون بمبدأ أستاذهم أبي نواس العبثي:
اسقني حتى تراني
أحسبُ الديكَ حمارا
ولم يكن هؤلاء العابثون يتورعون عن الاستهتار بالقيم الدينية والأخلاقية، مظهرين تحديهم لكل ما استقر على تحريمه الشرع والأعراف الاجتماعية، فيقول أستاذ الخمريات:
فخذها إن أردت لذيذ عيشٍ
ولا تعدلْ خليلي بالمُدامِ
فإن قالوا: حرامٌ، قل: حرامٌ،
ولكنّ اللذاذةَ في الحرامِ
وقد يجأر بتحديه الذوق الاجتماعي الذي يدعو المبتلى بشرب الخمرة أن (يستتر) عن أعين الناس، فيطلب من الساقي أن يجهر باسمها، ليتحقق له الاستمتاع (السمعي) إلى جانب استمتاعه برؤيتها وتذوقها:
ألا فاسقِني خمرًا، وقل لي: هيَ الخمرُ،
ولا تسقني سرّاً إذا أمكن الجهرُ
فَبُحْ باسْمِ مَنْ تهوى، ودعْني من الكُنَى
فلا خيرَ في اللذّاتِ من دونها سِتْر
وقد يبلغ به مجونه وعبثه أن يطلب من ساقيه ألاّ يسقيه (إلاّ التي نصّ بالتحريم جبريلُ)، فلا نعجب بعد ذلك إذا وجدنا هذه الرؤية العبثية للحياة تتسع حتى تغدو تعبيرًا عن أزمة وجودية، كما يتجلّى ذلك في قول الشاعر العباسي مطيع بن إياس:
اخلعْ عِذاركَ في الهوى
واشربْ مُعتّقةَ الدِّنــانِ
وصِلِ القبيحَ مُجاهراً
فالعيش في وصل القيانِ
لا يُلهينّكَ غيــرُ ما
تهوى فإنّ العمرَ فــانِ
فكأنّ انغماس الشاعر في ملذات الدنيا الحسية أفضى به إلى اليأس من الفوز بشيء من ملذات الحياة الآخرة المدّخرة للأبرار، فلم يعد أمامه إلا تحقيق أقصى ما يمكن من ملذات الحياة الدنيا وبأي وسيلة، قبل أن يأتي الموت فيضع حدًا لهذه الملذات.
ومن المهم - في ختام هذا المقال - أن نشير إلى أن دبيب الخمرة في نسيج إبداعنا الشعري لم يتوقف أثره عند موضوعات الشعر أو رؤى الشعراء، ولكنه امتد إلى سياق البناء اللغوي، فصار للخمريات معجمها وتراكيبها وأساليبها وصورها التي تجعل منها فنًا شعريًا مستقلاً كغيره من الفنون الشعرية المعروفة.
* أستاذ مشارك - جامعة عدن

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى