سننجو ما دمنا أحرارا

>
أحمد ناصر حميدان
أحمد ناصر حميدان

أرهقتُ فكريا وعصبيا من متابعة التلفاز، والكم الهائل من الأحداث والمشاهد المزعجة، ولا مجال أمامي غير الخروج لأتمشى وأستنشق هواء نقيا، وخرجت بخطى بطيئة متجها لكورنيش المنصورة كان الوقت مساء ومنظر المعلا وخورمكسر يطل علينا ببهاء وجمال قناديل الشوارع كأنها لؤلؤة ومرجان تنعكس إضاءتها على سطح بحيرة المملاح المعلم التجاري العريق الذي ارتبط بتاريخ عدن الاقتصادي كمنتج ومصدر لأجود أنواع الملح في العالم، المنكوب اليوم كجزء من نكبة عدن منذ 1994م حربهم الظالمة على هذه المدينة والجنوب عامة.
وفي طريقي صادفته، كان أمامي يتأمل، عرفته من ملامحه، ناديته، لم يسمعني، وكررت النداء، التفت إليَّ واحتضنني، فرقتنا النكبات المتتالية التي جعلت عدن خاوية من كل شيء جميل ورائع، من الأنشطة الثقافية والفكرية والشبابية، كنا معا قيادات اتحاد الشباب الذي قتلوه ونحروه في حربهم على عدن والجنوب، نهبوا مؤسساته ومبانيه، وباعوها لحسابهم الخاص بملايين الدولارات، مال حرام يسمم أجسادهم وذويهم دون خجل أو حياء.
كان مهموما وكئيبا، قلت له: المنظر جميل وبديع!! رد بتشاؤم: وماذا قدم هذا المنظر لنا كشعب منتهك ووطن منهوب؟ عدن جميلة منذ الأزل حتى وإن تعمدوا تقبيحها، لكن القبح اليوم في الحياة.. صرخ بصوت مرتفع: ماذا يريدون منا؟!، لم نستطع أن نتحرر منهم، من يكونون؟، ألسنا الأغلبية؟، ألم يكفهم ما نهبوه واستباحوه في الجنوب والشمال؟!. هدأت من غضبه، وقلت: صديقي، خرجت من المنزل لأسترخي وأستنشق الهواء النقي، دعنا نهدأ ثم نستعرض أخبار البلد.. تحركنا إلى أقرب بوفيه، وقدمت له كوبا من العصير الطازج، وهدأ ثم تكلم باتزان بقوله: صديقي العزيز تعرف مشكلتنا في هذا الوطن هي القسوة والعناد بعضهم ترعرع عليها واعتبرها رجولة وقوة، فيعامل الناس على أنهم أشياء لا أشخاص، يعطي الأوامر والتعليمات، ولا يتشاور معهم، ولا يستمع إليهم، ومن لا ينفذ أوامره كما هي يحظى بمعاملة قاسية وشديدة منه، بل يصل لحد الانتهاك وفقدان الاحترام، يضاعف من الخلاف وتتراكم المشكلات لتصل إلى حد الانفجار، ويا ويلك إذا كان العنيد بيروقراطيا يحفظ اللوائح والقوانين عن ظهر قلب.
فالحوار معه في أي موضوع يلجأ إلى ذلك البند الخاص من اللائحة أو القانون الذي يمس الموضوع، فيتوقف أي تحرك ويعيق أي تقدم، وإذا كان يملك القوة يجعل الحوار يسير لأهدافه الضيقة والأنانية، أي استغلالي، ومتى كان الاستغلالي عنيدًا فهو يسبب مشكلات عديدة لمن يتعامل معهم.. ومتى ارتبط العناد بالقسوة صار أسلوب صاحبه خاليًا من الإنسانية، ونحن في هذا البلد ضحايا هذه العقول على مدى سنوات عجاف لم نستطع تحقيق أي تقدم.
واستمر قائلا: ماذا حققت القوى السياسية من نتائج في حوارها مع النظام السابق منذ اتفاقية الوحدة غير العنجهية والتسلط والتكبر وتعميد الوحدة بالدم والموت وصانع المنجزات الهلامية والدولة الفضائية والنتائج السلبية لازالت تتوالى إلى يومنا هذا، والزمن يعيد نفسه، ونحن أمام نفس العقلية.. قاطعته: هل تعتقد ـ يا رفيقي ـ طبيعة التضاريس وقساوتها والتربية وخشونتها؟.. رد: يا صديقي تلك الظروف تصنع رجالا أوفياء لا أوغادا، يحبلون من ألسنتهم، إن وعد وفى، وإن تعهد يلتزم، لكننا أمام غير ذلك، لا وفاء بالعهود ولا التزامات بالمعاهدات، كلها مناكفات وتهرب وأمر واقع، والعنف وسيلة لكل ذلك، يريدون حكمنا مجبورين مهزومين، ألم تسمعهم يكررونها: انتصرنا.
انتصروا على من؟ انتصروا على وجههم الآخر على نسختهم الأخرى، انتصروا على من تمرد عليهم من داخلهم، وأراد أن يتحرر من مركزهم، فحكموا عليه بالإعدام والنفي، ليستمروا يحكموننا بالنار والحديد، كما قالها أحد نخبهم وقاضٍ من قضاتهم، إن الجنوب في قبضتهم، ولديهم قوات مسلحة قادرة على الضرب بقوة لإخماد أي تمرد في الجنوب على مشروعهم العائلي السلالي.. هذا وهو قاض ومستوعب القانون والحقوق، ويدعي أنه يساري متحرر، أما الجهلة فيهم تجدهم كالوحوش لا يفقهون ولا يدركون غير العنف وبدواعي الإرهاب أرهبونا وبالفساد أفسدوا وطننا.
قلت له: لا تحزن يا رفيقي، فالحوار مستمر.. نهض بغضب: اجلسوا حاوروهم دهرا لن تصلوا إلى نتائج، ألم تستوعبوا الدرس، هؤلاء لا حوار معهم، هم يؤمنون بالعنف وفرض أمر الواقع، ويتحدثون عن الثورة والفعل الثوري والشعب، ومن هنا علينا أن نستمر في فرض فعلنا الثوري عليهم، وأن نثبت لهم معنى الثورة الشعبية السلمية التي لا يستطيع الوقوف أمامها أعتى وأقوى الجيوش والمليشيات بمختلف أنواع الأسلحة، ولا ينفع التحريض والاستحواذ على المؤسسات الإعلامية والفضائيات وشراء الذمم والتهديد والترغيب.
إنها ثورة شعبية جارفة، لا يستطيع الوقوف أمامها لا الطغاة ولا المستبدون والمتحايلون، بالذات عندما يكون الشعب واعيا مدركا لمصالحه، عندها لن تنطلي عليه الأكاذيب والفبركة وصناعة الأوهام والمكر والخداع، هو يحكم بما يشاهده واقعا ملموسا.
ابتسم أخيرا وقال متفائلا: سننجو مادمنا نملك إدراكا وإحساسا، وتنبض قلوبنا وأرواحنا بالحياة، ومادمنا نعشق الحرية ونشتاق للمستقبل الوضاء.. سننجو بشبابنا الرافض للواقع والعاشق للتغيير والمتطلع للعلا والشموخ والعزة والشرف.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى