أعجوبة القرن.. تنام النجوم على حنجرته الذهبية أبو بكر سالم بلفقيه.. وطن كامل السيادة 2 - 2 ..!

> محمد العولقي

>
محمد العولقي
محمد العولقي
* على شاطئ (جدة) حيث اللول يوجد والصدف.. كانت (الصدفة) وحدها ترتب لقاء القرن بين الفنان (أبوبكر سالم) والشاعر الغنائي (حسين أبوبكر المحضار)..التقى المبدعان في (مجرة) فنية مغرية إلى أبعد الحدود.. وشقت غريزة الإبداع طريقها نحو (توأمة) فنية خالدة دامت لأكثر من خمسة عقود..بداية فنية تحولت إلى تجانس هارموني مثير للدهشة..
* أخيرا وجد (المحضار) ضالته المفقودة في ذلك الصوت المتصبب شجيا وفنا.. كان التزاوج الفني بين الاثنين أقرب إلى (حبكة) درامية صاغها الرحمن من أحلى التحف..وانهمر سيلا غزيرا من مخيلة الشاعر (المحضار) وارتوت حنجرة (أبو بكر سالم) واستحالت حقيقة إلى حديقة غناء للطرب الأصيل.. ترجمت كل المعاناة إلى حكايات طربية تنتصر للمكان والزمان..
* لقد غادر اللون الحضرمي (سرداب) الجزيرة محلقا بجناحي (أبوبكر سالم) نحو آفاق جديدة.. كان (المحضار) يقيس كلماته باوقيات الزئبق.. ثم ينسج اللحن وهو يدندن.. ثم يقدم إنتاجه الفني في (حبكة) درامية حضرمية.. وليس هناك أجود من صوت (أبوبكر سالم) الدرامي المتكيف مع كل الطبقات ليحوله إلى عمل فني ينبض بكل أحاسيس وعواطف الفلسفة الفنية الجديدة..
* كان (المحضار) يحرص على الإيقاع.. إيقاع الكلمة.. إيقاع القافية.. إيقاع الوزن..إيقاع الصوت.. وكان (بلفقيه) سفيرا مهذبا لتلك الرسالة الإيقاعية.. يحرص دائما على الاعتناء بها.. والنفخ في سلالمها الموسيقية من روحه.. فتكون النتيجة عملا فنيا نابضا بالحياة.. فياضا بكل تجليات الشهد والدموع..
* كبرت مجرة (بلفقيه) في الوطن العربي وأخذت تلقف ما يأفكون.. تحول إلى منارة فنية للطرب الخليجي والعربي.. وعندما لعلع صوته الشجي في الأمم المتحدة غرس على سطح القمر أول محارة فنية.. سرعان ما تفتحت بعد زمن وجيز في (اليونسكو) وهي تطرح رائعته الخالدة (أمتى أنا شوفك يا كامل وصوفك) لتطوف كل الدنيا.. واعتلى الفنان (أبوبكر سالم ) القمة عالميا.. وهو يخطف لقب الحنجرة الذهبية التي أدهشت كبار الفنيين في العالم.. مع الثراء الواضح في طبقات صوته المخملية..وفي أسلوب التلون مع الكلمة ومع التوزيع الموسيقي الذي ينساب بخفة (بلفقيه) على المسرح.. وبنعومة قافية (المحضار) السلسة التي تدخل القلوب والآذان دون استئذان.. كتب (بلفقيه) وصيته على حنجرته.. أودعها في قلوب محبيه.. وسافر يغزل من مجرته فراشا وثيرا يغري إلى أبعد الحدود..
* اصغ من فضلك للفنان (بلفقيه) وهو يشدو (رضى الهاشمي).. وهو يغرد كالكروان برائعة (شلنا يا بو جناحين).. وهو يتلو بيان الحكمة في رائعة (مشى كل الزمن وأنا في مكاني).. إنك أمام أعمال درامية تحملها حنجرة (أبو بكر سالم) لتحولها إلى مسلسل تصاعدي في المشاهد.. يبدو ساحرا وهو يعزف على نياط قلوبنا.. يرفعنا معه عاليا إلى مرتبة السمو.. ثم يعيدنا إلى واقعنا غير مبال بذلك العابث بالمشاعر..فيزدريه قائلا:(وأنا مالي إذا قالوا رفع رأسه..بكيفه يرفعه ولا يوطيه)..يعود ثانية (أبوبكر سالم) يعلمنا فضيلة التسامح في رائعة (كثر الله خيرك).. ولا يلقي بالا بكلام الناس.. فيقدم حكمته الإيقاعية في ( ما علينا يا حبيبي).. واضح أن للغربة أثرا كبيرا في شخصية (بلفقيه).. فقد علمته الغربة أن للصبر حدودا، وأن الصبر لا جاوز حدوده قتل..
* يشدو (أبو بكر سالم) في ليله الموحش بصوته الرخيم الذي يتشكل بصورة مدهشة.. تنساب معه الموسيقى العذبة الصداحة فتأخذنا إلى جغرافية الزهاد في رائعة (عاد قلبي معك أو رميته والهوى فاكره أو نسيته)..
* والفنان (أبو بكر سالم) هو الفنان العربي الوحيد الذي أنشأ مجتمعا حضرميا أصيلا في غربته.. كافح طويلا ليبقي على هوية الدان الحضرمي الأصيل.. بل إنه منحه جواز مرور إلى عالم الوثوقية.. فكان هذا العبقري سفيرا فوق العادة لذلك اللون التراثي المثير .. ولا أبالغ مطلقا عندما أشهد (والشهادة لله) أن هذا العبقري المعجون بالتصوف والتزهد اقتفى أثر بيئة (تريمية) عاشت في خلاياه.. وحملت بلازما تحديه للغربة.. فصنع في غربته وطنا خاصا لم تفارقه تلك الطقوس التي تملأ كيانه منذ أن كان طفلا يتنقل بمهارة من موشح ديني إلى آخر..
* قصة غرام (بلفقيه) ببيئته وتربيته السمحاء تفجرت مرارا وتكرارا على حنجرته الذهبية.. ولم تخل روائعه الفنية من تقدير تلك السمات والصفات التي كانت بمثابة (جينات) شخصيته.. ستلاحظ عزيزي المتذوق أن الفنان (أبو بكر سالم) يشحذ حواس الآخرين للتعريف بطباع (الحضارم) في رائعة (مرحيب بك يا الطيب الأصلي)..ولأنه فنان مرهف الحس يرى في الفن رسالة بليغة فقد حرص على رسم معالم حضارة (حضرموت).. وتصويرها في قالب درامي ينبص بكل تجليات وجماليات وكماليات (حضرموت).. عندما نستمع إلى (بلفقيه) وهو ينشد الدان في رائعة (شوقي إلى الغناء.. مدينة حضرموت) حتما تتفجر في مآقي العيون (نافورة) درامية تتلون بعاطفة فنان اتخذ من الجغرافيا والتاريخ أدوات حسية ناطقة لتتشكل هيئة مجتمع حضرمي راقي يطوف العالم ناشرا الإسلام والسلام في ربوع العالم.. نعم إن (بلفقيه) ساحر في تحريف مفهوم (التوحش).. فتلك الجبال القاحلة المخيفة نبتت على حنجرته من العدم.. فتغنى (بالجبال السود) وحولها إلى لوحة فنية متموجة جذابة ومدهشة ومرغوبة على مدى النظر.. توظيف الطبيعة في أعمال الفيلسوف (أبو بكر سالم) تحدي في تدجين الصعاب واستسهالها وقمعها فنيا لتؤدي مشهدا يخدم عاطفة الفنان العاشقة للجمال وتحديات الطبيعة..
* لم يسبق لأي فنان أن استخدم تراثه الغنائي كعمادة تبني وطنا من سلالم موسيقية.. ومن ألحان بديعة تشعرك أنك في وطن فاضل.. لقد بلغ تأثير (أبو بكر سالم) على الغناء العربي مداه حد صعوبة الخروج من جلباب فنان عبقري يرسم لوحاته بحنجرته.. ويخضعنا كعشاق لذلك الوطن المعبد بكل إيقاعات فنه الرفيع..
* لا جديد عندما أقول إن (أبوبكر سالم) موسوعة فنية وأدبية غير عادية على الإطلاق.. وشخصية غنائية استثنائية نادرة خلدها الزمن.. ذلك الفنان المتخم بأحاسيس الهوى والجوى منضبط في نظامه الصارم الدقيق.. مثابر شديد القلق على كل عمل فني يقدمه لجمهوره.. يبدو جموحه الفني كجنون مبدع يخرج دائما عن المألوف.. لكنه شديد الإخلاص في عاطفته وهو يردد في كل زمان ومكان (باشل حبك معي ).. تلك العاطفة الصادقة التي انتقلت إلينا بالوراثة عن طريق (الحبل السري) لحنجرته الذهبية المختلفة الطبقات.
* أما وقد انكشف سر حبنا لك يا عبقري الطرب الأصيل.. وزال غموضه فلم يعد حبنا لك مغلف بالكلف.. لن نبرح (المكلا) وقد شيدت فيها مليون مصيف للعشاق والزهاد.. نعم يا فنان القرن وصلتنا برقيتك..وليس لك أن تسألنا بعد اليوم (حد في الحجيرة).. لست بحاجة إلى (صندوق البريد) فأنت في قلب كل بيت عربي ويمني.. سنبقى في حضرتك ننتظر على إيقاعات أغنيتك (أسعد زمان الحب من وعدك إلى أن ألقاك).. لن تغادر حدقات محبيك.. سنراك في مرآة (أنسي معك طاب).. سنقتفي أثرك في (طاب الهنا).. ستشاركنا أفراحنا في رائعة (هني قلوب العاشقين).. لن ننسى (قال المعنى بن حسن)..
*الله على أعمالك يا (أبا أصيل) فقد تميزت بدرجة عالية من الإخلاص والتفاني والتجويد والإتقان.. أعمال ارتقت بك إلى درجة خلود في قلوب محبيك.. والسبب عبقرية (بلفقيه) النادرة التي أجادت في الأدب والفن.. في البحث والعرض.. في التفكير والتعبير..في الوصف والتذوق.. تلك العبقرية المدهشة التي وظفها الفنان لصالح الإنسانية..كانت بلا حدود سارت على نهج ومبادئ راسخة دفعت بصاحبها إلى محاكاة النجوم شاعرا فذا ومطربا ألمعيا وملحنا سبق عصره بمراحل كثيرة..
* تلاعبت حنجرته الذهبية بكل ألوان الغناء.. كان يطوع تلك الألوان بخبرة (جواهرجي).. وعبقرية (بناء) شيد للغناء اليمني وطنا في الغربة.. ليس لتلك الألوان الغنائية العدنية والصنعانية و الخليجية إلا أن تحط على حنجرة (بلفقيه) فتتدفق شجنا ولحنا إلى أن يبلغ سيلها الزبى..
* تتمتع حنجرة (أبو بكر سالم) الذهبية بقدرة كبيرة على التمدد الطبقي والانكماش السطحي.. تتلاعب حنجرته الذهبية بالمساحات الصوتية من الأشد انخفاضا إلى الأشد ارتفاعا وكأنه قط يلهو بكومة قش.. مساحة صوتية متلونة تزداد ألقا وتألقا عندما توضع على محك أسلوب (بلفقيه) المذهل في الأداء..
* في ارتفاع صوته رقة مدهشة.. وحنان جارف يشدك.. وعذوبة عاطفية تستخلص تجارب البشر.. وتحرك شجون الشجر والحجر.. فنان داهية يتمتع بإحساس كامل بكل مكونات الموسيقى الشرقية ومقاماتها المتنوعة.. وفي انخفاض صوته تتدفق حساسية مفرطة في الوداعة.. يناجيك بمهس قوافي الليل.. ويسهر معك على موال (يا زارعين العنب)..
* ظل (سنونو) الفنان العملاق (أبو بكر سالم) يطارد نسمة (أرخبيل).. كانت الأحداث والمطارات ووالوقائع تتراكم في دواخله وتغلي في أعماقه كجمرات.. كانت رائحة المطارات تزكم وجدانه.. بين التأشيرات والجوازات والتذاكر والوزن و توديع الأحباب ينكمش ذلك (السنونو) في قلبه.. فمن يمكنه أن يأتي لنا بالربيع غيره؟ من غيرك يا (أبوبكر) يتسلل إلى أغوار النفس البشرية ويقرأ طلاسمها؟ (من يشبهك) يا من تقطعت أحشاؤك في حب (اليمن)؟ من يمكنه أن يحتفل بالجرح غيرك؟
* ذلك الهرم الفني المثير سيظل في عيون عشاقه (أمسي وماضي و مستقبل زماني)..لن تتوارى حكمته وتجربته وهو يصدح (علمتني كيف أحبك).. لن يمحوك الليل من وجدان الهروب نحو (غدر الليل والرحلة طويلة والحمولة على رأسي ثقيلة).. سنبقى على العهد ولن ننسى تحذيرك المبطن (عادك إلا صغير بدري عليك الهوى).. لن نشكو حالنا (لقمري البان).. ولن نتوه مع عاصفة (كلما صفت غيمت).. لقد حددت لنا بوصلة الذوق الفني.. فكيف نضل السبيل وقد اكتشفت لنا جاذبية الليل؟ سنبقى على العهد لن نسقط في محظور (ما حسبنا حسابه).. سنحب كما علمتنا (ولا شي في المحبة لوم).. ستغمر الفرحة لقاء الحبيب في يوم (الخميس).. أنت لم تغادر وجدان عشاقك.. سنحن لك هاتفين في الليلة الظلماء (مشتاق لك مشتاق).. ستلتهب قلوبنا لفراقك و(نار بعدك) لن تنطفي في أعماقنا.. سننادي ليلنا الموحش (يا رسولي توجه بالسلامة).. سنعاود كرنفال (ليلة في الطويلة خير من ألف ليلة).. سنستمد من وهج تراثك قبسا يؤنس الجمال في رائعة (عيني تشوف الخضيرة).. لن نبكيك أيها العملاق الراحل عملا بحكمة زودتنا بها في دراما (يا عين لا تذرفي الدمعة).. سننهل من تراثك الذي لا ينضب شرابا مستساغا مرددين (نوب من جبحك).. ستبقى لنا وطنا استثنائيا نلوذ به كلما طحنتنا ويلات الحروب والكروب.. (من مننا معصوم) في حبك أيها الزاهد الذي تنام على حنجرته الذهبية كل النجوم؟
* رحل (أبو بكر سالم) عن دنيانا الفانية بعد أن ترك لنا (منارة) فنية تضيء دروبنا.. وبعد أن كسر حاجز قلق الليل مشيدا لنا وطنا دعائمه أعز وأطول، ذلك الوطن الذي شيده بحنجرته حكم السماء فإنه لا ينقل كما قال (الفرزدق) لخصمه في النقائض (جرير).. ودعنا ملك المشاعر وهو في قوبنا قمة خالدة.. ومقامة رائدة.. وقيمة ثابتة لا تتأثر بتضارب وتقلبات الزمن.. وداعا يا ملك القلوب.. ستظل في أعيننا ملهما فنيا أصيلا.. وستبقى في مشاعرنا وعواطفنا لحنا خالدا.. أحلى من (رنين الوتر)..!

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى