آفة الجمال تفسيره

> د / سعيد العوادي

> أريقك أم ماء الغمامة أم خمر
بفيَّ بَرودٌ وهو في كبدي جمر
رأت وجه من أهوى بليل عواذلي
فقلن نرى شمسا وما طلع الفجر
رأين التي للسحر في لحظاتها
سيوف ظُباها من دمي أبدا حُمرُ
تناهى سكون الحسن في حركاتها
فليس لرائي وجهها أبدا عذر ...
المتنبي شاغل الناس وساحرهم .. لن أنساب مع النص كله في عجالة كهذه ولكني أقف عند البيت الأخير فهو واسطة العقد .. ولنذكر. ما قاله الشراح .. يقول الواحدي في شرحه: “حركاتها كيفما تحركت حسنة، وسكون الحسن قد بلغ الغاية”.
ويقول أبو العلاء في معجز أحمد: “إذا تحركت سكن الحسن في حركاتها فتكون حركاتها مسكنا للحسن”، وبنحو من هذا في الشرح المنسوب للعكبري، وشرح اليازجي.. وهذا الذي ذكروه منزع المعنى العام فأين منزع الدهشة و الجمال?.. أين خيط الشعر الساحر.. في هذا التركيب المدهش?
يبدو أن آفة الجمال تفسيره.. فلو عمد أحد إلى لوحة الموناليزا .. فأخذ يشرح ألوانها وخطوطها وفكرتها. لآلت اللوحة إلى رشاش من الحبر ومزع من الورق.. إن الذي يتجاوز الفعل (تناهى) في بيت المتنبي ولا يقف عند مدلول هذه الصيغة ينأى عن الفن ويحيد عن قصدية الاستعمال العبقري لهذه الصيغة.. الانتهاء هنا درجات تصاعدية.. إذ مدلول (تفاعل) الصرفي هنا ليس للمشاركة ولكن للتدرج في بلوغ الغاية علوا.. ولست بمستطيع أن تفسر - جماليا - هذه الملاءمة بين (التناهي.. والسكون والحركات) إلا على وجه بارد من القول يتجاوز إيماء اللفظ و مدلول التركيب..لا يمكنك أن تتصور التركيب إلا هكذا صورة مبهرة يسرح فيها الخيال ويكد فيها الفكر ووراء ذلك متعة أية متعة وجمال أي جمال!!
الوقوف أمام الصورة الكلية والابتعاد عن تحليلها جاء في حوار بين حافظ إبراهيم وطه حسين.. إذ قال حافظ راثيا مصطفى كامل:
أيا قبر هذا الضيف آمال أمة
فكبر وهلل والق ضيفك جاثيا..
قال له طه حسين: هل لك أن تخبرني كيف يكون القبر جاثيا?
فقال حافظ: أأعجبتك الصورة? قال نعم.. قال ذلك ما أردت..
مثل هذا القول أشار إليه البلاغي الكبير عبدالقاهر الجرجاني في بيت الخنساء..
ترتع مارتعت حتى إذا ادَّكرت
فإنما هي إقبال وإدبار
رادا على من تأول إسناد المصدر إقبال خبرا للمبتدأ (هي) على معنى فإنما هي ذات إقبال وذات إدبار إذ إنهم لا يجيزون الإخبار بالمصادر عن الذوات.. فجاء هذا التأويل مصيبا الجمال في مقتل.. وهو الأمر الذي لم يستسغه إمام البلاغيين عبدالقاهر الجرجاني. فقال موجها البيت.. “وذاك أنها لم ترد بالإقبال والإدبار غير معناهما.. و إنما تجوزت في أن جعلتها لكثرة ما تقبل وتدبر ولكثرة ذلك عليها واتصاله منها وأنه لم يكن لها حال غيرهما، كأنها قد تجسَّمت من الإقبال والإدبار” دلائل الإعجاز..
ويقول في فصله “إدراك البلاغة بالذوق وإحساس النفس” في تعليقه على بيت أبي نواس:
ألا لا أرى مثلَ امترائي في رسم
تَغصُ به عيني ويلفظه وهمي
أتت صورة الأشياء بيني وبينه
فظني كلا ظن وعلمي كلا علم..
(وإنك لتنظر في البيت دهرا طويلا وتفسره ولاترى أن فيه شيئا لا تعلمه ثم يبدو لك فيه أمر خفي لم تكن قد علمته).

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى