البردوني.. ورحلته في الشعر اليمني قديمه وحديثه

> هاني محمد سعيد جرادة

>
 هاني محمد جرادة
هاني محمد جرادة
جاء كتاب (رحلة في الشعر اليمني- قديمه وحديثه) الذي صدر في بداية السبعينيات للشاعر عبدالله البردوني والمكتبة اليمنية لا تشتمل على أكثر من ثلاثة كتب في الأدب اليمني في نهاية الستينيات، وهي:
- «دراسات في الشعر اليمني القديم والحديث» لزيد الوزير.
- «قصة الأدب في اليمن» لأحمد الشامي.
- «شعراء اليمن المعاصرون» لهلال ناجي.
وقد اشتمل كتاب البردوني على مجموعة من التراجم والتعليقات موزعة على مراحل وعصور مختلفة ابتدأت من عصر ما قبل الإسلام وانتهت بالعصر الحديث.
ولوالدي الراحل الأستاذ محمد سعيد جرادة رأي في كتاب البردوني يقول فيه:
ولئن لم يخضع هذا الكتاب للمناهج النقدية الحديثة كل الخضوع، ولئن آثار هذا الكتاب ضجة بين نقاد البردوني وخصومة إلا أنه كان كتابا رائدا، لأنه يتعامل مع نصوص منشورة من الشعر اليمني، وحقا إن البردوني كان في هذا الكتاب ناقدا انطباعيا يختار وينتقي ولا يجمع ويقَصّى، إلاَّ أنه رغم ذلك كان يختار الجزء الذي يدل على الكل وينتقى الظل الذي يدل على الصورة، وهو في هذه الناحية أفضل من كثير من المحاولني للنقد بطريقة التعميم الذي يتجه إلى الشخص أكثر مما يتجه إلى النص.
ولقد كانت لي رُحيلة مع الراحل الكبير عبدالله البردوني في رحلته في الشعر اليمني قديمه وحديثه، أجهدتني كثيراً إلا أنها عادت عليَّ بإفادة ضمنتها دراستي المتواضعة التي قد يضيق بها هذا الحيّز الذي ستفرده لي صفحة «الأيام» مشكورة، لذلك آثرت اختيار جزء من هذه الدراسة لأنشره على صدر إحدى صفحات «الأيام» الغراء، لا سيما وأنه يتعلق برأي خرج به الراحل الأديب والشاعر عبدالله البردوني من غزليات الجرادة في كتابه فيقول:
«قصائد الجرادة لا تزفر فيها لوعة الفراق ولا مرارة السهد ولا شكوى امتناع الحبيب، لكنها تصور مواقف لقاء، وهذا اللقاء مزيج من الخمرة والمرأة وصور العربدة».
وقد استشهد البردوني بقصائد ثلاث لتأكيد وجهة نظرة كقصيدة «كأس وحبيب» وفيها يقول الجرادة:
ياحبيبا رقدت أجفانه وتراخى جسمه فوق ذراعي
قم فهذا الليل يدعونا إلى سمر يحلو وخمر وسماع
أنا في قربك قد أدركت ما فات من سؤلي وولىّ من طماع
ليس لي عند زماني بغية أنت من دنياي حظي ومتاعي
أما القصيدة الثانية التي اجتازها البردوني فكانت قصيدة (من جهنم)، وفيها يقول الجرادة والدي:
لا تطوق يداك عنقي فلي قلب إذا قاوم العواطف يهزمْ
لا تمديهما إليَّ فمن مدّ إلى النار كفه كيف يسلمْ
اتركيني لوحشتي وانفرادي أنت أولى ببسمة يملأ الفمْ
أنت لحن من الفراديس يسري وأنا رجع صحيحة من جهنمْ
وكانت قصيدة «لقاء» هي القصيدة الثالثة التي استشهد بها البردوني، وفيها يقول الراحل محمد سعيد جرادة:
ياحبيبي أي عيد أي سعد سوف تبقى هذه الليلة عندي
عندنا ورد حكى رقة خد ومدام أشبهت فرحة وعدي
وفراش ناعم المخمل وردي وأحاديث صبابات ووجدي
سوف أحيا هذه الليلة وحدي وسيحياها رواة الشعر بعدي
فقد رأى البردوني قصيدة الجرادة «كأس وحبيب» انعكاساً للقاء حبيب وكأس وشاد مبدع لكنها من جانب آخر وعكسي، حنين إلى الحبيب والكأس، لأن اللقاء كان مجرد متعة قصيرة والمتع القصيرة تُهيَّج الذكرى وتثير الحنين إلى لقائها مرة ثانية.
أما قصيدة «من جهنم» فاعتبرها صورة من صور اللقاء وأن مثل هذا اللقاء رفض شاعر الحب الاقتراب من الحبيبة ورأى البردوني الجرادة في «قصيدة لقاء» سعيداً بأفراح اللقاء لأن هذه الليلة ستصبح حديث المحبين، ولأنها ليلة ولقاء حشدت ببنت الكرم وبنت حواء على فراش وردي فهي ليلة ذات تاريخ.
وحقيقة قد اتفق مع أستاذي الراحل البردوني أنَّ القصائد الثلاث للجرادة كلهنّ لقاء ومشاهد لقاء، لكنها لعمري ميزة تحسب للجرادة إذا قورنت بقصائد الغزل العربي اللاتي يفضن بالحنين إلى اللقاء ولا تصور ذكريات اللقاء إلاّ في أبيات، بينما قصائد الجرادة تصور مواقف لقاء من أوائلها إلى أواخرها وبوجه خاص وأدق قصيدة «لقاء» لكن أخالفه الرأي بأن قصائد الجرادة لا تزفر فيها لوعة الفراق ولا مرارة السهد ولا شكوى امتناع الحبيب، فللجرادة قصائد تزفر لوعة الفراق... إلخ كقوله:
هجرت وابعدتني وقد كنت قربتني
فلما ملكت الفؤاد قسوت وعذبتني
سهرت الليالي عليك ونمت القرير الهني
وسرت كما تشتهي طليقاً وقيدتني
وهناك قصيدة «سأم» يقول فيها الجرادة:
اذكري مضنى تغنىَّ بالهوى نغَم الشوقِ وألحانَ الحنينْ
مستطارَ القلب موهون القوى شاردَ الأفكار موصول الأنينْ
اقرأي لحظي ففي لحظي انطوى سمرّ آمالي والآمي الدفين
واسمعي شعري فما شعري سوى أدمع يذرفها قلبي الحزين
كذلك قصيدة «تمرد» وفيها يقول الجرادة:
أيها الساخر من قلبي كفاك سوف أمضي لن تراني أو أراك
إن قلبي لم يزلْ حراً وإن عاش حينا بين أشراك هواك
كنت في أسرك لا عقل معي وصحا العقل فمزقت الشباك
كنت ألقاك سعيداً هانئا فإذا بي اليوم يشقيني لقاك
حبنا مات ولن أندبه إنه كان طريقي للهلاك
أيضا للجرادة قصيدة بعنوان «رسول الحبيب» وفيها يقول:
الحبيب الجميل وافي رسولُه نائبا عنه في عتاب يقولُهْ
قال إن الحبيب أسخطه منك غرامٌ تذيعُهُ فتذيلُهْ
وقصيدٌ نشرته فيه بين الناسِ سارتْ أخبارُه وفصولُه
لم تلمعْ به ولم تسلكِ الرمزَ سبيلا والجهرُ ساءَ سبيلُهْ
وهناكُ قصيدة أيضاً بعنوان «على أطلال الحب» وفيها يقول الجرادة:
حبيبي إذا ما جئت عشَّ غرامِنا ومغنى أمانينا فشاهدتَهُ قفرا
إذا سمعتْ أذناك للبوم ناعباً بأطلاله الغبراء يبتعث الذعرا
إذا سرتَ فرداً كالشريد تضبح حواليك أشباح التخيل والذكرى
اذا ما لبستَ الليلَ ثوباً من الضنى يزيدُك قراً كلما أصبغ السترا
فلا تلتفتْ نحو الوراء فلن ترى هنالك إلاَّ الليل والشوك والصخرا
ولا تندب الماضي بعين قريحة وأنت الذي وسَّدت جثمانه قبرا
سأنساك حتى في الخيال وفي الكرى كأن لم تكنْ شيئاً على خُلَدي مرَّا
سأسلوك حتى تذرف الدمع ثانياً وتطوي يداً تدمي على كبدٍ حرَّى
ثم يواصل الأستاذ عبدالله البردوني حديثه عن غزليات الجرادة فيقول:
إن الجرادة كان ينتهب اللذات ويتحرق بعدها بالندم بتأثير حسَّة الخلقي وثقافته الدينية، ثم تصيح فيه مجاعة اللحم والدم فيشتاق إلى مواقف اللقاء مرة ثانية، لأن تصوير مواقف اللقاء بهذا النهم وهذا الطرب يدل على أنَّ اللقاء كان قصير العمر.
فمن يقف على هذا الرأي يشعر وكأن الجرادة غارق في الرذيلة والخطيئة حتى أذنيه، في حين أن هذا الرأي يتعارض مع الوجه العام الذي عُرف عن الجرادة، وعهد به السلوك القويم والأخلاق الفاضلة والحس الخلقي والديني والعزوف عن الاستجابة لنداء مجاعة اللحم والدم والأستاذ البردوني أول من يعلم ذلك عن الجرادة، وهناك الكثير من الشواهد الشعرية التي تؤكد وجهة خلافي مع أستاذي القدير عبدالله البردوني.
ولنقف على أول شاهد من خلال هذه البيوت الشعرية من قصيدة «وادي الخطايا» للجرادة:
رأتني أناجي روحُها فتململتْ وردت ولكنْ بعد صمت ثوانِ
ودار حديثٌ بيننا لم نكدْ له نكفَّ فؤادينا عن الخفقانِ
عن الشّر في الدنيا وكيف نسوقُةُ إلى المرء أقدارٌ بغير عِنانِ
وعن طفلها الموجود في ظل والد خلا قلبُهُ من رحمة وحنانِ
يحذَّره منها ويروي حياتها له في بيانٍ زائف اللمعانِ
وعن دخلها المحدود يذهب نهبه لبائع أزياء وصاحبِ حانِ
وألمُ من هذا الحديثِ تأثري وكيف قلبي شاعرٌ ولساني
وخلت بجرح بين جنبي دارَها وعدتُ بجرح في الحشاشة ثانِ
سأرسُمها في غرةِ النجم ليلةً أرتنَي دينا في رقيق كياني
وقصةَ حبٍ ذات فصلٍ معقدٍ ستحتلُ من صدري أعزَ مكان
فإذا كان الجرادة تصيح فيه مجاعة اللحم والدم، كما قال البردوني، أما كانت هذه الفريسة البشرية «بائعة العواطف» أولى بها الجرادة، أما كان أولى به أن يناجي جسدها بدلاً من مناجاته لروحها، وهو الذي لم يرها وعاء للصديد كغيره، حيث يقول في ذلك:
رأوها وعاء للصديد وأنهم لشتى معاني الرجس شرَّ وعاء
أيبغون منها لذة لم تبع بها سوى حظها من حشمة وحياء
أيرجون منها صفو ساع ستنتهي بقتل عفاف أو بسحق إباء
لكنه ناجى روحها الكسيرة ومشاعرها الجريحة وآلم قلبه ولسانه حديثها الذي ينطق بمأساتها التي استنكر البردوني على الجرادة رسم تلك الليلة في غرة النجم الذي جمعته بتلك المرأة وأرته دنيا في رقيق كيانه، عندما قال البردوني:
«لكن لماذا رسم الجرادة هذه الليلة في غرة النجم، هل لها خلود والعظمة إنها لا تستحق هذه المكانة لحقارتها في القصيدة وفي الواقع»، وهناك قصيدة أخرى بعنوان «صدود» وهي تظهر سمو وترفع الجرادة عن السقوط في مهاوي الرذيلة وفيها يقول:
تحدثني عيناك عن عالم الهوى وتشرحُ لي شكوى الصبابة والحبِ
فأذهَل في صمت عميق كأنما أريد به قصدُ السبيل إلى الذنبِ
ويهتف بي صوتُ الضمير فلا أرى سوى الموتِ يبدو لي من البعد والقرب
إليك فإني لا أميل إلى الخنى ولست فتى يقوى على نقمةِ الربِ
إلى أن يقول لها:
إليك فلي عن حبك اليوم شاغلُ ولي غير تضييع الشبابِ مرامُ
ودوني لا شراك الدلال فريسةٌ وغيري لحيات الغرام طعامُ
لقد رنَّ صوت العقلِ فهو عواطفُ لها في ضميري ضجةٌ وعرامُ
وقد طار وهمي عن سماء إرادتي كما طار عن جفن العظيم منامُ
وهي دعوة صريحة من امرأة تريد بها دفع الجرادة إلى ارتكاب واقتراف الذنب مستخدمة في ذلك أسلوب الدلال للغواية، لكنها وجدت في صوت عقل وضمير الجرادة أقوى من أساليبها لردعه وردعها عن ارتكاب أي فاحشة.
ثم لو رجعنا إلى القصائد التي استشهد بها البردوني «كأسُ وحبيب» و«من جهنم» وبوجه خاص قصيدة «لقاء» عندما قال فيها:
إن الشاعر جرادة سعيد بهذا اللقاء لأن هذه الليلة ستصبح حديث المحبين لأنها ليلة حُشدت بنت الكرم وبنت حواء على فراش وردي، فهي ليلة ذات تاريخ.
فهل يعقل في الخمسينيات أن الجرادة يحشد لهذا اللقاء كل معدات الغواية والمجون من منزل فاخر، محتوياته الفراش المخملي الوردي والورد المتناثر الرقيق برقة الخد، وهو الشاعر الذي افتقر إلى مأوى متواضع يستظل به قبل زواجه وبعده كما جاء على لسانه:
هو من هم ثلاث ما استراح
نفسهُ والزوج والطفل الصغير
إنها قصيدة كغيرها من القصائد اللاتي طرقن موضوع اللقاء للجرادة مع الحبيب وإعمال الخيال في تصوير مالا يمكن وقوعه في واقع الخمسينيات، فمن الممكن أن يتحقق اللقاء بين شاعر الحب والحبيب، لكن ليس واحتشاد معدات الغواية والمجون في «قفر ترامى جانباه» كقول الجرادة في قصيدة «وقفة»:
جوّ غنائي سبحنا في محيط من سناه
لما افتعدنا الرمل في قفر ترامى جانباه
لمعت بأيدينا الكؤوس وأجرت النغم الشفاة

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى