رحمانوف الحبيب.. السفر المفاجئ للخلود منتصف الطريق

> نشوان العثماني

> في مثل هذا اليوم، الـ14 من ديسمبر من العام الماضي، توقف قلب عبدالرحمن عبدالخالق، الأب والمعلم والصديق.. الإنسان الكثير في الحقيقة.
نشوان العثماني
نشوان العثماني

يأتي هذا التأبين بعد أربعة أشهر على رحيله الفاجع، لنتذكر معًا بعضًا من هذا الإنسان الذي كان بيننا، عمل الكثير، أديبًا ونقابيًا ومعلمًا أعطى للآلاف من طلابه بكل حب وكان جوادًا أن يقدّم كل شيء.
في الثامن والعشرين من يناير عام 1900، كتب انطون تشيخوف إلى صديقه ميخائيل أوسيبوفيتش، وكان قلقًا على صحة ليف تولستوي، كانت الأخبار قد تداولت إصابة «الأسد السمين» بعارض صحي، فكتب يقول:
أخافني مرض تولستوي وجعلني شديد التوتر. أنا أخشى موت تولستوي. موته سيترك فراغًا كبيرًا في حياتي. لم أحب رجلًا كما أحببته.
تمامًا كان رحمانوف الحبيب ليمثل لنا الأهمية ذاتها، هذا على المستوى الإبداعي الأدبي والإنساني. ما كنت لأتخيل أبدًا هذا السفر المفاجئ للخلود منتصف طريق الحياة، وربما خرجت هنا عن سياق الحديث الصادر عن الأسرة إلى حالة التلميذ المريد.
لقد أخافنا مرضه جدًا عندما أجرى عملية القلب المفتوح، ولما فرحنا بتعافيه بعد أشهر من ألم كان يدهمه كلما ابتسم وكان يقاوم مضاعفاته ونجح في التغلب عليها، غير أنه وبعد سبعة أشهر حل الرحيل خبرًا فاجعًا صبيحة يوم خميس ليترك فراغًا في حياتنا عجزنا حقًا أن نملأه أو أن نفهم ما حدث.
مات تشيخوف قبل تولستيوي بست سنوات وكان أصغر منه بـ44 عامًا، لكن رحمانوف الحبيب ذهب قبلنا.
ولطالما كان الراحل حادي الأدب إن جاز لي رسم التركيب؛ أينما ارتحل حدث صاحبه عن الجمال متخيلًا؛ أن ننزله ونقيمه على رجليه واقعًا، ومعه كان الحديث يجري عن العمالقة دومًا، وفي المقدمة منهم تولستوي هذا المعلم العظيم ورفاقه، وقد كان ألا تكون هذه الكلمة دونهم.
في كل لحظة الآن صرنا نراه في كل زاوية وفي كل مكان نزوره وسبق لنا اللقاء به أم لم يسبق، نرى في الأفق ملمحًا له لكنه يتجسد، نراه يبتسم قادمًا من عمق المكان حيث اللا مكان وقد اتحد هنا والآن بالروح في سماه.
كان بيننا ورحل.. آيةٌ ولنرَ بعين القلب.. دنيا تظل وليست دارًا لإقامة طويلة.
كان بيننا وكنا نحيا في وجودٍ مؤنسٍ للروح.. كان يمثل لنا ملجأً؛ ليس لأنه خال من مشاكل الحياة وهمومها، ولكم أن تتخيلوا أسوأ الصروف وقد أناخت بكلكلها عليه، بل لأنه كان محبًا للإنسان الذي بداخل كل إنسان، يعشق أن يعمل ما يدفع بالحياة إلى الأمام وما يساعد العالم الداخلي على التماسك، وما يجعل للحياة قيمة أن تكون أفضل.
كان دائمًا يعزز الأمل، ويبتسم في وجه أكثر الظروف وطأة، حين كان يبكي يدخل غرفته ويغلق الباب، وقد وعى المعنى الصوفي في علاقته بالمطلق له كل القداسة، يخاطبه صديقًا وأكثر ويبوح له بكل شيء.
من أي نبع معرفي وروحي نهل ليكون بتلك الكثرة النوعية؟ لكننا من معرفتنا به لا يجري الحديث كل مرة إلا وحمل المعرفة والإنسان، متعدد النهل من شتى الثقافات ومن كل أشكال التعدد في الحضارة الإنسانية.
واليوم في اعتقادنا ليس لنا أن نتمثل في داخلنا حضور حبيبنا الغائب إذا ما أردنا أن نصل معه إلى اتباع النهج الحري بنا عدم التفريط به والمؤمل أن يكون واجبًا علينا مواصلة السير على هداه، هو أن نعزز فينا، بداخلنا أولًا، وفي محيطنا ثانيًا، ثقافة المحبة والسلام والتعايش وقبول الإنسان وبناء السلوك بتأصيل التعاطي مع المعرفة والمضي قدمًا نحو إنارة الوعي حتى نصل لفهم أفضل وإدراك مبنى على قيم الفضيلة.. الفضيلة لذاتها وليس نحو ما يحول حاجزًا أمام فهمها جيدًا، فالطريق إما في الظلمة لتكون والسائرون فيها لا يعرفون أبعد من وَهَن النظر، وإما في النور وليكن في الداخل من حيث كان وهو البدء.
حين تلتقي عبدالرحمن عبدالخالق، لا تكن بعد لقائك به كما كنت قبلًا.. فكيف بالحري حين تتلمذ على يديه؟
معظم الحاضرين هنا من طلبة هذا القسم الذي ساهم أستاذنا الراحل في تأسيسه، وهم يعلمون جيدًا أنه لم يكن رحمانوف الحبيب ليبني آمالًا يسعد لها ويعمل جاهدًا لأجلها إلا حين تُبنى على الجيل الذي يتعلم وعليه أن يتعلم جيدًا وأن يحب المعرفة وأن يعشق أن يمضي دائمًا مجسدًا في بيئته ومجتمعه ولكن بدأ به أولًا، سلوكًا ينسجم إيجابًا وهذا التعاطي مع روافد العلم والمعرفة.
قبل ذلك ومعه عمل الراحل الذي اتسم بالجمال حد العظمة في كامل منظومة سلوكه، لأجل الأطفال. وحري بنا اليوم أن نعود لكل قصصه التي كتبها، ليقرأها أطفالنا، ولنقرأها معهم ولهم، لندرك أن البناء مرتبطًا ببعضه، وأنه ليس من مرحلة غير مهمة في مسار الإنسان، وعلى الأخص من ذلك المرحلة الأولى في حياته التي يجب أن تبنى على ثقافة المحبة.
إذا ما التفتنا يمينًا ويسارًا، وإلى الأمام والخلف، لنجدن تراكم المشكلة المتشعبة في مجتمعنا له أصل واحد هو البدء بالتربية والتعليم. وإذا لم يقم هذا الالتقاء منذ الأسرة وصولًا إلى الجامعة على ترابط ما هو تربوي تعليمي معرفي ثقافي بالمحبة لكان هذا، ولنعلمه جيدًا، بدء الداء الذي تتسلل منه الطاقة السلبية التي توجه مسار الفرد حيث لا ينسجم مع قيم الجمال.. كانت تنتظرنا أيام أجمل بعد انقشاع هذه العاصفة التي طال أمدها، أيام أجمل بوجوده، كنا نخلد للراحة لأن للسفينة قائد حين يُسمع صوته ينام الأطفال بهدوء، وحين نرى ابتسامته نحس بالأمان.
وقدم حملني غالينا الحبيب الرفيق هوزن عبدالرحمن عبدالخالق سلامًا كثيرًا لكم، وحرفيًا قال لي: كان عبدالرحمن أبًا وأخًا وصديقا.
والرفيقة أبها عبدالرحمن عبدالخالق التي تحضر معنا هنا والآن، وقد شرفتني بإلقاء هذه الكلمة، لسان الحال كما تُقرأ الكلمات عنها بصوت متهدج باكٍ: خطفه الموت. أفتقده كثيرًا.
وهي لا تستوعب أننا نتحدث الآن عن الأب والأخ والصديق عبدالرحمن عبدالخالق.. فدعونا نقول لها:
- روحه الآن في السماء.. لقد تحررت من هذا العالم.. ذات انطلاق وبدء جديد سنلتقي به.
- وأن نكون لها ولهوزن والرفيقة حنان شريكة دربه التي لم تستطع أن تكتب شيئًا لهذا التأبين؛ فهي حتى الآن لا تتخيل أنه رحيل دون عودة إلى هذه الحياة، وتقول إنه ذات سفر مضى وسيعود. دعونا يا رئاسة القسم وعمادة الكلية ورئاسة الجامعة أن نكون لهم جميعًا واسمحوا لي أتحدث باسمكم.. العون والسند في كل شيء.
لنتذكر جيدًا وكلي حرص أن أقول أمامكم هذا الكلام:
يا للأسف لقد فرطنا بكل هذا الإنسان.. لقد تُرك رحمانوف الحبيب يصارع المرض ووطأة الظروف قبل ذلك، وحيدًا لم ينل في حياته حقوقه التي كان يجب أن ينالها. حقًا وليس منه من أحد. كان يحب أن يساعد الجميع، ولم يكن ليملك في بعض الأحيان ما يمكنه من الوصول إليهم.
لكن لن نبكي ما كان، فقد حدث ما حدث. ولنكن الآن بجانب أسرته التي يحتم كل شيء أخلاقي وإنساني وواجب الضمير وإلزمالة ألا تبقى هذه الأسرة وحيدة تصارع مشاق الحياة. الحال ذاته ليكن مع كل إنسان في عائلتنا الكبيرة التي هي عائلة جامعة عدن.
الكلام ذاته موجه إلى اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين.. لقد بقي معنى حضوره في هذا الحياة محفورًا في أعماقنا، وليس لنا اليوم من عزاء أمام هذا الغياب إلا أن نسعى جاهدين لنكون في المقام الأول، كل منا أمام نفسه: إنسانًا. ولا يحتم الاهتمام بك كإنسان أن يكون لك ما يسندك من دواعي التركيبة الاجتماعية ونظامها التي نعيش، يحتم الاهتمام بك كإنسان فقط عندما تتمكن من اكتشاف الإنسان الذي بداخلك، وأن تمضي لتكونه كما هو.. وفقط.
باسم أسرة الراحل شكرًا لكم. تحايا القلب.
* أُلقيت هذه الكلمة بالنيابة عن أسرة الراحل د.عبدالرحمن عبدالخالق؛ في الفعالية التأبينية التي أقامها قسم الصحافة والإعلام بكلية الآداب جامعة عدن، السبت الماضي 14 أبريل 2018.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى