المناطقية المقيتة وفقاً لنظرية «أبقراط»

>
جلال عبده محسن
جلال عبده محسن
أتباع نظرية «أبقراط»، والذي هو بمثابة مؤسس الطب، والتي تقول: «إن معرفة نوع المريض الذي أصابه المرض لأهمّ كثيراً من معرفة نوع المرض الذي أصاب المريض»، يحاولون تجنب استخدام مصطلح «المرض» ويفضلون أن يشيروا إلى أناس معتلين يعانون صعوبة في التكيّف مع ظروف خاصة في وقت معين، وهو الأمر الذي يعني بأن أناسا بعينهم وما يتصف به كل شخص من تفرد بيولوجي وتفرد في أسلوب حياته.

هذه النظرية وإن كانت تصلح في مجال الطب، إلا أن المعطيات والواقع يدلان على أن النظرية لها تأثيرها الواضح في الواقع الاجتماعي، والتي أكدتها كتابات أبقراط منذ حوالي 400 ق.م على أهمية العوامل البيئية في التأثير على صحة الإنسان، حيث إنه من الواضح أن النمو الاقتصادي والتنمية الاقتصادية يستلزمان تغييرات في الأنظمة البنيوية للبيئة، إذ لا يمكن لنظام البيئة في أي مكان أن يظل سليما على حاله حتى في الحالة العكسية من ذلك، في ظل الظلم والقهر والإقصاء ومنطق القوة والتي تبرز معها الكثير من الأمراض الاجتماعية كالعنصرية والمناطقية والمذهبية والطائفية وحتى الحزبية متى ما كانت تعصبية ووسيلة للتسلق الاجتماعي لشغل المناصب التي تعوض صاحبها أحيانا نقص الكفاءة بالكياسة والفهلوة وبتوثيق الصلة بمنابر القيادة السياسية، وكلها أمراض تضرب أطنابها وتغرس شوكتها في خاصرة المجتمعات، وتشكل إحدى معوقات التنمية والمشروع التحديثي للمجتمع، بل وتساهم في تعديل نسق الحياة ونمطها بما يساير هذا الاتجاه.

إن التعقيدات المتشابكة والمتداخلة التي نعيشها اليوم في ظل ظروف الحرب والتي هي بالتأكيد حصيلة تراكمات لأزمات سياسية واقتصادية واجتماعية ساهم في تكوينها وتطورها النظام السياسي الذي حكم اليمن لعقود من الزمن، ولازلنا نعيش تبعاته حتى اليوم، ومن خلفه حكومات متعاقبة اختلطت عليها الأولويات.. فالنظام السياسي عادة ما يكون له السطوة الكبرى في تشكيل وتوجيه بقية المسارات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والتربوية، وفي ظل أيضا عدم الوصول إلى حل للقضية الجنوبية وفقا لحلول منصفة وعادلة حتى يومنا هذا، بل ومحاولة فرض حلول منقوصة كما يراها اصحاب المصالح وليس أصحاب الأرض وبمنطق القوة والقهر واستبعاد الآخر، هي أيضا من الأمور التي عقدت المشهد السياسي وأفرزت أحقادا وضغائن وولدت روح الانتقام في النفوس على حساب القيم الإنسانية النبيلة ولغة التسماح التي تعايشنا معها منذ زمن وحتى وقت قريب، وهو ما عزز من التعصب المناطقي والقبلي المقيت، حتى أضحت ثقافة يمارسها البعض كوسيلة للتميز والمفاضلة عن الآخر ومظهرا للتماهي والافتخار والتكبر والاستعلاء، بل والسخرية والانتقاص من الآخرين.

 كما غدت شهوة القتل والتصفيات الجسدية هي اللغة السائدة على الأرض وطغت على قيم الرحمة والتعاطف لتطفي بريق المشاعر الإنسانية السامية، وصل معها الحال وبدلا من الإشارة إلى مكامن الخلل والعلل أيا كان مصدرها من هذا الطرف أو ذاك، أصبح البعض يشير إلى أناس بعينهم كما أشارت إليها نظرية «أبقراط» وعن كونهم معتلين لا تصدر العلة إلا منهم بغض النظر عن صلتهم بها من عدمها، لا لشيء سوى عن كونهم من مناطق جغرافية معينة وجب قدحهم بأشد العبارات وصب جام الغضب عليهم.

 لقد وصلنا بالفعل إلى منعطف خطير في تذمير عقل المواطن بهدف إفساد وجدانه وإعطاب ذوقه وخدش حيائه وتبديد وعيه وزعزعة ثقته حتى بنفسه.

إن ما يجري من تعصب مناطقي ومن قتل وإزهاق للأرواح بدم بارد نهارا جهارا وعلى مرأى ومسمع الأجهزه الأمنية المسؤولة لأمر أشبه بصورة الواقع في الفلم السينمائي الذي قد تجري أحداثه لتخلق شعورا بالواقعية لدى المشاهد، ولكنها تظل بمثابة إعادة تشكيل لخصوصية الواقع وليس الواقع ذاته.. وأيّ كان الألم والإحباط من الواقع الذي نعيشه والذي هو من صنع الماضي الأليم، إلا أننا لابد أن ندرك أن الماضي ذاهب بناسه ورجاله وملابسات وقائعه، وأن ما بين غمضة عين والتفاتتها يبدل الله من حال إلى حال.. ويظل الشيء الواجب علينا والمتاح لنا هو أن نصرخ بقوة ومرارة في وجه من يقوم بخدش كل جميل وأصيل في هذا البلد، لأننا نعلم أن الخُرس أشد بؤسا منا.​

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى