صالح باصرة

> د. هشام محسن السقاف

>
> لم يكن د. صالح علي عمر باصرة أكاديميا تقف به الحالة عند صرامة المنهج وقواعده الرتيبة، يستطيع الرجل في ناشئة نادرة جعل الجامعة مشرعة الأبواب والنوافذ على المجتمع.

ولا استطيع أن أنكر حتى لا أدمغ بالمبالغة والمجاملة إن قلت: إن باصرة حالة إنسانية تفيض عن الوعاء الجامعة، حالة ديناميكية جذابة تتخطى الحواجز المحددة - أيا كانت هذه الحواجز - لتصنع هالتها المبهرة في اتجاهات شتى وعلى مستويات متعددة، وبحيث لا تحدها (تابوهات) بعينها بقدر ما تكون الحالة جلية بتفاصيل العلم والسياسة والمجتمع وبمحورية الفاهم النابه بمجريات السائد بكل تفاصيله وتداخلاته وبما يطوعه لفكرته الأساسية لا أن يختزل هو فيه بحيث تتلاشى المقدرة وتعود بصاحبها مسخا لا شخصا، وكل ذلك بفضل توليفته العجيبة وكاريزماتيته الآخاذة الشبيهة بالسهل الممتنع عند فقهاء اللغة.

في زمن الشاشة الفضية الصغيرة غير الملونة كنا نشاهده صغارا وهو يتحدث في التاريخ، وعند إيقاظنا لأوتار ذاكرته بعد عقود من ذلك الذي كان، يسترجع اللحظات بتفاصيلها ومشاق إخراج البرنامج ليظهر كما هو للمتفرجين. ثم لا يستنكف أن يقول إن مشاهدته للبرنامج تكلفه الجلوس ودفع قيمة كأس من الشاي في مقهى عدني من ضمن مقتنياته الجاذبة للزبائن.. التلفزيون.

سنجد تعبيرات وافية غير مبهمة للحالة الإنسانية الرائعة لباصرة، حين يمخر هو بمركب الجامعة العريقة نحو السلامة الأخلاقية بعد أن سقطت المدينة العريقة في براثن احتلال 7/7/1994م. يستطيع أن يوازن السياسي الطارئ نتاجها بحيث لا تكون الجامعة ساحة وغى ثانية لتصفية الحسابات بعقلية المنتصر والمهزوم. وحده يستطيع أن يستوعب الكادر العلمي في مدرسة العلوم الاشتراكية بعدن والخريجين من الخارج بذات التخصصات المماثلة، دون أن يتبرئ أو يختبئ في يافطة (النأي بالنفس) وتأدية تعظيم سلام للجنرال المنتصر أو لأذنابه المتنمرين التائقين لمأدبة التنكيل بالآخر المنهزم وإشفاء الغليل المتعطش.

يستطيع باصرة أن يفعل ذلك ويحفظ للجامعة حرمتها واحترامها.
 تترسخ مكانة الجامعة كحاضن علمي كبير مشرع الأبواب على المجتمع، وكان الأداء عاليا يتعافى رويدا رويدا من شظايا الحرب وإحباطاتها. ويستطيع كثير - وأنا منهم - أن يتذكروا أنهم كانوا في خصام معلن مع نظام 7/7/1994م في الجنوب عندما توظفوا في الجامعة على عهد باصرة.
 كان صادقا مع نفسه كما هو مع تراتبيته السياسية الأعلى بصوته القادر على تشخيص الأوضاع وطرحها   وتفنيدها، ولكن لا حياة لمن تنادي، حيث لا يستساغ كثيرا مثل هذا الصوت أو رجعه في مستويات الفهم المشبع بغرور النصر، وثقافة ضم التهائم وفتحها من المتحدرين من الجبل.

 أستطيع أن أجزم أن ثبات الحالة / باصرة في عرينها الأكاديمي مشدودا بحبال الارتباط المتينة بممسكات المجتمع في عدن الثقافية والاجتماعية والسياسية، ولسنوات دون أن تذهب إليه مكافآت السلطة بما هو أعلى،  عدم الرغبة هذه ناشئة من انفتاح الرجل على الجميع، ومن ديناميكية تجره إلى الكل، ولذا ذهبت المكافآت لمن هم أدنى علما وإدارة وسياسة ولكن بطواعية البنان.

وعندما يراد لجامعة عدن أن تنكفئ تفتح صنعاء بابها للرجل، ولكنه يظل كما هو بنفس وتائره ومثابراته السابقة، دون أن يخفت في صدره ذلك التماهي في حب جامعته، فقد ظل محافظا على كرسيه في قسم التاريخ العريق، وفي كل آوبة وأخرى إلى عدن لابد من إطلالة على المهاد الأول وعلى الزملاء القدامى منهم والجدد، يستمع إلى نقاشهم ويحمل جزءا من همهم إلى حيث استقر وكأنه معني بذلك الأمر.

وعندما انزاعت سفينة النظام وبدأ الجنوب ينفث جام غضبه، اضطر النظام أن يتخلى عن قليل من غروره ويبحث عن وجوه تقبلها الجماهير، فكانت لجنة هلال - باصرة التي شخصت الداء وحددت الدواء، وجاء تقريرها الشهير، بما لم تشتهه إلى هذا الحد الذي جاءت عليه السلطة الحاكمة.
كان لا خيار - كما يقول باصرة - إلا باختيار التضحية بقائمة الـ 16 الرهط المفسدين في الأرض أو التضحية بالوطن، فاختار الغرور المتسلط الخيار الثاني.

في كل هذا الزخم والحراك والعمل يهمل د. صالح باصرة صحته ولكنه لا يهمل شغفه بالتاريخ والسياسة والعمل الاجتماعي والثقافي والبحث العلمي، يضع بصمته على مركزه العلمي فاسحا له جزءا من بيته. ويبث في منتداه الحياة بعد عودته من صنعاء، ليكون رئة أخرى لباصرة لا تتنفس سوى قضايا الوطن بتشعباتها. وكان كما كان دائما ملح تلك العصريات (الخميسينية)، لا لأنه صاحب المنتدى والدار وإنما لأنه هو هكذا.

وجدناه بعد تحرير عدن باصرة الذي عرفناه بشاشة وحبا لمن حوله، والقا في الطرح والمناقشة والجدال، لا يأبه بمؤشرات المرض، وقد بقي صامدا في بيته بخورمكسر رغم ضراوة المعارك. بقي هنا رغم احتياجاته التي يفرضها العمر والمرض.
سلام عليه، على رجل رسخ مفاهيم وقيم الحرية والعدل والسلام في حياتنا.
وداعا أبا شاذي.


> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى