باصرة.. الراحل في زمن الرحيل

> أ.د. علوي عمر مبلغ

> > وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون».
تصاب الأوطان والمجتمعات بخسارة فادحة، حين يرحل أساطين ودهاقنة من الرجال ممن صهرتهم التجارب، وصنعتهم التحولات، وصاغت خبراتهم الظروف والتقلبات التاريخية. وتكون الخسارة أفدح والمصاب أكثر جللاً عندما يغادر هؤلاء الرجال مسرح الحياة في ظروف حالكة ومنعطفات تراجيدية كالتي نمر بها اليوم، الأمر الذي يجعلنا في أمس الحاجة إلى خبراتهم وتجاربهم ومعارفهم ومواقفهم.

 إن المرء يحار في العزاء أيكون لأهله وأولاده وبناته وذويه الذين جعلهم جزءا من المجتمع الكبير الذي نذر نفسه له، أم للمجتمع عامة والوطن على اتساعه، فالجميع فقد بفقدانه كتلة من القيم التاريخية، سنحتاج إلى ردح زمني طويل حتى تتوفر في إخلاصه، وفي مراحل تاريخية لا تتكرر، ولا يعيد فيها التاريخ نفسه بشروط مكررة وتظهر في حياة الشعوب والمجتمعات نماذج بشرية إنسانية لا تتكرر هي الأخرى، لا من حيث تكوينها الإنساني ولا من حيث دورها في الحياة المجتمعية بتجلياتها المتعددة - العملية - الثقافية والسياسية والخاصة والعامة، وما يميز هذه النماذج الإنسانية أنها تتكون مجبولة على أن لا تحيا لنفسها ومن أجل ذاتها، ولا تجعل انخراطها في حياة الناس نفعياً بأية صورة من الصور الانتهازية التي تتخذ من المكانة وحب الناس جسراً إلى تحقيق الجاه وكسب المال.

ولعل من المفيد القول بأن من هذه النماذج البشرية الإنسانية فقيدنا باصرة المغفور بإذن الله تعالى، الذي ارتبط بمجتمعه ارتباطاً عضوياً بكل المعايير والمقاييس، ولذلك ترك رحيله فراغاً كبيراً في الوجدان المجتمعي الذي سكنه وعاش همومه وتطلعاته وأسكنه كل مساحات تفكيره وشعوره حتى صار العمل المجتمعي شغله الشاغل، ولهذا المسار الذي سلكه الفقيد في حياته أسباب تعود إلى طفولته التي أحتسى فيها كؤوس قساوة الحياة وتجرع مرارتها ووعورة وصعوبة المعاش في مدينة دوعن الحبيبة دوعن الأيسر. فزرع هذا التكوين في نفسه بذرة العمل على إدارة المجتمع وتحقيق التكافل الاجتماعي، وأثمرت تلك البذرة سنبلة، والسنبلة سنابل من العلاقات المجتمعية، نظم الفقيد حباتها في مجتمعه بالمشاركة المعيشية والوجدانية لكل من يحيطون به في العائلة والجامعة والمجتمع.

وعلى أساس من هذا المسلك الرفيع كان للفقيد دور بارز في تأسيس عدد من الكليات والمراكز العلمية في جامعة عدن فاكتسب بذلك قدراً كبيراً من الاحترام والتقدير العظيمين لدوره ذلك لدى فئات المجتمع، ولا أجد حرجاً في البوح أن فقيدنا يعد بدون مغالاة ربان سفينة الجامعة الماهر، والذي قادها باقتدار بعيداً عن الأمواج العاتية التي كادت أن تعصف بها ولا سيما بعد حرب 1994م، ومن الاهتمامات المتنوعة للفقيد بوضعه جزءاً من التكوين الثقافي الجنوبي تجلياته الإبداعية ومشاركته المشهورة في المنتديات الثقافية وحضوره الفاعل لمعظم فعاليات مؤسسات المجتمع المدني الأهلية منها والخيرية. غير أن تلك النشاطات المتعددة لم تكن لتثنيه عن مشروعه المجتمعي في متابعة المشاكل المجتمعية وخدمة الناس، وبقدر ما كان يتحلى به الفقيد من رجاحة عقل وفكر ثاقب ورصانة في السلوك والاستقامة الأخلاقية على نحو يبعث على الاحترام والتقدير، فقد كان في داخله روحاً مرحة ميزته بالفكاهة الراقية والساخرة في أحايين عدة.

وقد عرفه الجميع بأخلاقه العالية وفي مجتمعه الصغير «أسرته» ما يشهد على تلك الأخلاق والصفات الحميدة، فكل من كان يلي أمرهم من أهله وبنيه كانوا يتقاسمون من ينابيعه الصرامة والحزم والأبوة والحنان والصدق والاحترام.
إن نموذجاً من هذا النوع البشري - الإنساني، الذي أجملنا القول في تكوينه وصفاته وسجاياه لا يرحل بمجرد رحيل الجسد عن الدنيا الفانية لأن سيرته الذاتية والكيفية التي جسدت تلك السيرة في مجتمعه ستظلان تشعان بما كان له من أثر يتعلم منه كل من أراد أن يكون نموذجاً في هذه الحياة.

لقد كانت معرفتي الأولى بالفقيد في العام 1976 أي ما يقرب من أكثر من أربعة عقود من الزمن وذلك حينما كان طالباً في كلية التربية العليا آنذاك، وكنت حينها طالباً معه في المستوى الأول وهو في المستوى الثالث،
وذهبنا معاً إلى ألمانيا الديمقراطية الشرقية سابقاً، وعملنا معاً مهنياً في جامعة عدن، وعملت تحت إدارته وقيادته مدرسا وعميداً حتى توفاه الله. عرفته رجل قرار ومقداماً في وقت المحن والشدائد، عرفته صادقاً وصريحاً، عرفته حنوناً وعطوفاً، عرفته متسامحاً وشجاعاً وصبوراً، عرفته محبا للخير، عرفته وديعاً وودوداً، ، عرفته عالماً ومفكراً، عرفته مرحاً وبشوشاً، عرفته مناضلاً مغواراً.

إن الكثير من المحطات الهامة في حياة هذا الفقيد لجديرة بأن تمثل مصدر إلهام للأجيال اللاحقة للتعلم منها معاني الوفاء والصدق والصبر والنزاهة والاستقامة والإخلاص والنبل.
يرحم الله الفقيد ويسكنه فسيح جناته ويلهم أهله وذويه الصبر والسلوان.
وفي ختام هذه المرثية وعلى طريق التأبين لأربعينية الفقيد أتوجه إلى مجلس الجامعة بتكريم الفقيد وذلك بتسمية واحد من المراكز العلمية أو القاعات الدراسية التي دأب الفقيد على تأسيسها ودعوة محافظي عدن وحضرموت كذلك تخليداً لهذا الهرم العلمي، الذي أعطى للجامعة أكثر مما أخذ منها.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى