المــذبـــح..قصة قصيرة

> عبدالحميد ضحا

>
كنتُ منذ الصغر حتى بداية مرحلة الشباب أحب التجوُل بين الحقول وفي الطّرُقات، ويومًا كنتُ أمارس هوايتي، فإذا بي أمامَ نهرٍ ماؤه أحمرُ قانٍ، فألجمتني الدهشة، وشَخَص بصري، وغفا تفكيري، لا أعلم المدَّة التي غاب وَعْيِي فيها من أثر هذا الشيء العجيب، ولمَّا عاد إليَّ جزء من وعيي، أخذتُ أنظر إلى ماء هذا النهر، إنه كالدم القاني، أيُعقَل هذا؟! نهر من دم؟!
فأخذتُ أتتبَّع هذا النهر لأرى مَنبَعه، وأثناء سيري وجدتُ الناس يسيرون على ضفَّتيه بأحوال غريبة، فأخذت أتأمَّلُهم، فبدا لي الاختلاف الكبير في أحوالهم من ذلك النهر القاني؛ فمنهم من ينظر إلى مائه، وكأنه ينظر إلى ماء آسِنٍ، ومنهم من لا ينظر إليه، وكأنه غير موجود، ومنهم من ترى في نظرته خليطًا من الأسى وقلَّة الحيلة، وقليلٌ منهم من تنهمر الدموع من مُقلتَيْه كأن ما يجري في النهر هي دماؤه!

وصلتُ إلى مَنْبَعِه سريعًا؛ فهو بادٍ لمن ينظر إليه من بعيد، وتستطيع الوصول إليه بكل يُسر، ويا له من منبع عجيب!
إنه مذبح كبير جدًّا، حولَه أرض فضاء هائلة تدلّ على أنه يتوسَّع باستمرار ليستوعب زيادة أعداد الذبائح، ورأيت أعدادًا هائلة من الناس تقف أمامه، فأخذت أفكِّر: ما دور هؤلاء الناس في هذا المذبح؟! أيُعقَل أن يكون هؤلاء كلهم عمالاً؟! وأين الذبائح الهائلةُ العدد التي يجري من دمائها النهر؟ فوقفت أتأمَّل وأحلِّل ما يجري أمامي؛ لعلِّي أصل إلى إجابات لما يدور بخَلَدي، ويا لَهَوْلِ ما رأيت!
رأيت باب المذبح الكبير جدًّا مفتوحًا على مِصراعَيْه، ويدخله أناس من الرجال والنساء والأطفال زرافاتٍ ووحدانًا، وعلامات الدهشة والمأساة على وجوههم تصرخ: بأي ذنب نُقتَل؟!

إذن؛ هؤلاء الناس هم الذبائح، كيف ذلك؟! وهل يُذبَح البشر؟! وكيف يَرضَون بذلك؟! أليست لديهم الفطرة الإنسانية بالدفاع عن النفس؟!
فإذا بأحد الشباب يثور، ويأبى أن يدخل المذبح، فانبعث صراخ من بعيد: إرهابي إرهابي! فإذا بالواقفين في انتظار دورهم لدخول المذبح يردِّدون وراء هذا الصوت الآتي من بعيد: إرهابي إرهابي، فأخذ الشاب يسترضيهم: لست إرهابيًّا، أنا مسالم، ولا أستخدم العنف.. فإذا بالجواب الحادِّ: إذن؛ أَثبِتْ ذلك عمليًّا! فإذا به يهدأ ويسير وديعًا إلى المذبح!
فأخذتني الدهشة! يا إلهي! ما هذا الذي يحدث؟! إما أن يُذبح في هدوء ولطف ووداعة، أو يصير إرهابيًّا!!

ثم بعد قليل تكرَّر الموقف مع بعض الشباب، وبمجرد سماع لفظ «إرهابي»، يسير كلٌّ منهم إلى المذبح وديعًا هادئًا كأنه مخدَّر! وكأن الصُراخ بهذا اللقب مخدِّر، يجعل الضحيَّة تسير إلى حَتْفِها بلا أدنى مقاومة!
وبتَكرار المشهد مرَّت مدَّة من عمري مشدوهًا أتابع ما يحدث، لا أعلم مقدار هذه المدة، ولكني أشعر أنها استوعبت عمري منذ وَعَيْتُ لنهر الدماء، ومن حينها يتكرَّر المشهد، بَيْدَ أن عدد الرافضين للذبح يزيد، وعدد الذبائح كذلك يزيد!

فأخذت أردِّد أهازيجَ وأشعارًا لأحضَّ منتظري الذبح على المقاومة، وأخذ بعضهم يردِّدون ويُنشِدون معي، فاشتدَّ الصراخ المعتاد: إرهابي! فرددت على الصوت: من تقصد؟ فكان الرد: كلكم إرهابيون، وعليكم إثبات أنكم لستم كذلك، فردَّ أحد الشباب: وكيف نثبت؟ ردّوا بحزم وحدَّة: تفعلون ما يفعل إخوانكم، وإلا فإنكم إرهابيون! فناديت بأعلى صوتي: هلمَّ إلى المذبح دون مقاومة حتى بالصراخ؛ حتى يرضى عنا هؤلاء الإرهابيون!
فساد الجميعَ الصمت، وعقدت الدهشةُ ألسنتهم، فلا تسمع إلا همسًا، ورأيت الرعب في عيون منتظري الذبح من ردَّة الفعل على كلامي! فأكملت: الإرهابي هو الذابح لا الذبيح.. فتجهَّمت وجوههم، وبدا أنهم سيفتكون بنا لا محالة، بَيْدَ أنهم يخافون من تبعات ذلك الفعل الأحمق، فهم يحبون أن تسير إلى المذبح بكل رضا ولطف، لا أن يصير صراعًا بين فريقين، فقالوا: إنك تدعو إلى المقاومة؛ أي: العنف؛ أي: تريد سفك الدماء؛ إذن فأنت إرهابي.

فرددت: وأنتم منذ متى تسفكون دماءنا وتقتلون أحلامنا وأطفالنا؟!
فإذا بالنداء المزمجر: من ينبذ العنف يقف هنا، ومن يؤيِّد الإرهاب يقف مع هؤلاء الإرهابيين الذين يُغنون بأهازيجَ تحضُ على العنف، فإذا بالقوم يقف جلّهم في الجانب الآخر، خاصةً كبارَ السن ممن أَفْنَوا أعمارهم أمام المذبح!
وها نحن أولاء يزيد عددنا وينضمّ إلينا كثير ممن يأبى الذبح في هدوء، وما زلنا نفكِّر كيف نهدم هذا المذبح الرهيب ليجفَّ نهر الدم القاني؟!

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى