> نبيل أحمد باشراحيل
تمر مراحل ومنعطفات يتغير فيها الشكل، وليس المضمون، وتبقى الأمور على حالها، إن لم تكن أسوأ منها. والتغيير والإصلاح شعار غير قابل للتنفيذ.
للأسف الشديد، تريد الغالبية العظمى من أفراد المجتمع التغيير والإصلاح، ولكنها لا تعرف ماذا تُغير، أو ماذا تصلح، كيف تغير، كيف تصلح، نرى بعض المثقفين يطلقون شعاراتٍ لدغدغة مشاعر أبناء المجتمع وأحاسيسهم ليس إلا، وهدفهم الوصول إلى مبتغاهم والتسلق لتبوؤ مناصب لا يستحقونها، وغاياتهم تحقيق مصالح ومكاسب شخصية.
منذ خمسين سنة ونيف، نحتكم، نحن أبناء الجنوب في اليمن، دائما إلى العواطف، وليس للعقلانية، والعواطف تجرّنا إلى الأمراض الاجتماعية المزمنة، الأسرية والمناطقية والقبلية والوساطة والمجاملة والحزبية والموالاة. وهذا الواقع الذي نعيش فيه جعلنا ننظر إلى الأشياء بعين التشاؤم، والتشاؤم إحباط.
لا يمكن، بأي حال، أن نصلح الوضع المنهار الذي أوصلنا إلى ما نحن عليه اليوم من دون أن نبادر إلى لملمة الشمل، واستنهاض الهمم، ونفكر بجدية في تغيير الواقع الرث الذي أوقعنا أنفسنا فيه. ولن نستطيع تشخيص المشكلات الحقيقية، أو أننا لا نريد، حتى نوجد لها الحلول والمعالجات الحقيقية الناجعة، حتى لا تعيد إنتاج نفسها. وهذا يريد منا النية الصادقة والعزيمة والإرادة والجدية.
كانت عدن قبل الاستقلال منبراً للعلم والثقافة في الجزيرة العربية، وحاضنة للجميع، على اختلاف مناطقهم ومذاهبهم وأعراقهم ولغاتهم ودياناتهم، تذوبهم أخلاقها، وتجعلهم نسيجاً متماسكاً واحداً بأنظمتها وقوانينها التي لا تسمح بالتلاعب بها، كائنا من كان، وهذه هي قمة المدنية والحضارة.
التغيير والإصلاح وسيلة لتحقيق الأمن والأمان والحرية والسكينة والاستقرار الذي ينشده الجميع.
التغيير والإصلاح يريد منا بذل الجهود الجبارة، لاستخلاص النفيس من الرخيص، وإعادة
-خلال نصف قرن ونيف لم يحقق لنا حمَلة راية الجهل شيئاً يُذكر نفتخر به على أرض الواقع المعاش- الأمور إلى وضعها الطبيعي، حتى نبدأ في بناء دولة تقبل الجميع. وإذا لم نقم بحملةٍ مجتمعيةٍ لمحاربة ووقف الفساد واجتثاثه من جذوره فلا تغيير ولا إصلاح.
عدم الوعي وعدم الإدراك أسّسا سوء إدارة الحكم في أي مجتمع، كما أن عدم المعرفة بأسس شؤون المجتمع، ونقل العادات والتقاليد السيئة لتحل محل تقاليد المجتمع وعاداته الحسنة المتوارثة، هما مفهومان مترادفان كوجهين لعملة واحدة، والمشترك بينهما هو الفساد، لأن البيئة التي تربّيا فيها تحتم عليهما ممارسته باستخدام قوة الجهل والتخلف، للسيطرة على زمام الأمور.
وهكذا نكتشف أن التاريخ يعيد نفسه، ما دمنا لم نصح من غفوتنا كي نسرع في وضع اللبنات الأولى السليمة للتغيير والإصلاح.
عن «العربي الجديد»
كل ما نراه هو إعادة إنتاج الماضي، بكل مساوئه وأخطائه وعثراته، وليست لدينا القدرة على محو الأفكار الهدامة التي جعلتنا في موتٍ سريري، غير قادرين على الحركة.
المشهد أمامنا جميعاً. ماذا نشاهد؟ عند بعضهم عمى البصيرة، ويرى آخرون بضبابية.
المشهد الذي أمامنا صورة طبق الأصل لما أقول.. كل التعيينات لا تستند إلى أبسط المعايير الأدبية والأخلاقية، وإنما تأخذ أبعاد الأسرية المناطقية والحزبية والمحسوبية والموالاة، والغالبية العظمى من المعيّنين ينتمون إلى النظام السابق. لا تغيير ولا إصلاح. ويستخدمون في أدائهم منهجاً وآلية وأدوات وطرقاً وأساليب ما تعلموه من أسلافهم أرباب النظام المؤسّسي الفاسد. ونضالنا وجهادنا وتضحياتنا للتغيير والإصلاح قد ذهبت أدراج الرياح. وطالما هم على رأس هرم السلطة الحاكمة، فإننا لن نستطيع عمل شيء، بل للأسف الشديد كلٌ يبحث عن فرصة أو مخرج لنفسه، ليكون ضمن تركيبة هذه السلطة لتحقيق ما يصبو إليه من النفوذ والجاه والمال، «الغالبية العظمى من أفراد المجتمع تريد التغيير والإصلاح، ولكنها لا تعرف ماذا تُغير» والكل يكذب علينا ويراوغ من أجل الجنوب.
أناس كانوا بالأمس القريب في أسفل سلّم المجتمع، واليوم استطاعوا التسلق وأصبحوا من صفوة المجتمع، وهم لا يساوون شيئاً. أحسنوا وأجادوا التمثيل للوصول إلى الوظائف العليا في إدارة الدولة من دون عناء، ساعدهم في ذلك تفشّي الأمراض الاجتماعية التي تجذرت وتأصلت في نفوس أبناء المجتمع، وأصبحت ثقافةً تمارَس، من دون النظر إلى أبعادها المستقبلية وتأثيرها على الحياة العامة.
عدن هي حاضرة الجنوب. الكل يتمنى ذلك، ولكنها اليوم صارت بؤرة صراعٍ بين الإخوة الأعداء الذين لم يقدّموا لعدن أو للجنوب شيئاً يستحق الذكر، وهذا بسبب قلة المعرفة والفهم بأساليب إدارة الحكم.
المعرفة تخلق الأفكار، والأفكار تنتج الرؤى والأطروحات النظرية، وبعد تنقيحها وإجراء بعص التعديلات عليها تصبح مشاريع قابلةً للتنفيذ، ولكن عندما تنعدم المعرفة يسيطر الجهل ويتحكّم في التغيير والإصلاح، حسب أمزجته وأهوائه، لتحقيق مصالحه ومكاسبه الذاتية الضيقة التي تجرّنا إلى إنتاج الفتن والصراعات، وإعادتها لتصبح مستدامة.
التغيير والإصلاح يريد منا بذل الجهود الجبارة، لاستخلاص النفيس من الرخيص، وإعادة
-خلال نصف قرن ونيف لم يحقق لنا حمَلة راية الجهل شيئاً يُذكر نفتخر به على أرض الواقع المعاش- الأمور إلى وضعها الطبيعي، حتى نبدأ في بناء دولة تقبل الجميع. وإذا لم نقم بحملةٍ مجتمعيةٍ لمحاربة ووقف الفساد واجتثاثه من جذوره فلا تغيير ولا إصلاح.
التخلف والجهل بأمور الحياة العامة وضعانا في موقفٍ لا نُحسد عليه، نعيش متطفلين على الآخرين، والثمن سندفعه بطريقةٍ أو بأخرى، رضينا أم أبينا، والشعب المتخاذل اللامبالي الذي يجيد فن الصمت هو الذي سيدفع الثمن، طال الزمن أم قصر.
خلال نصف قرن ونيف، لم يحقق لنا حمَلة راية الجهل شيئاً يُذكر، نفتخر به في الواقع المعاش، بل كل ما تحقق إنما تشرذم وانقسامات واختلافات غير مبرّرة أدت بنا، في نهاية المطاف، إلى وضع هامشي، وبين جدل ونقاش بعيد كل البعد عن الأهداف المعلنة التي كانوا ينادون بها، إلا من شعارٍ ممجوج على مدى تلك السنوات الطوال وحتى اليوم (ثورة ثورة لا إصلاح).
فالجهل والتخلف أبقيا الشعب اليمني في دائرتهما الضيقة بصورة عامة، وبصورة خاصة شعب الجنوب الذي وقع عليه اليوم الأثر الكبير، بعد أن أصبحت هاتان العلتان مشكلة عالقة في حياة المجتمع الجنوبي، منذ زمن ليس بالقصير.
يجب أن نطهّر عقولنا من الشوائب العالقة، ونصفّي أذهاننا من الأفكار المنحرفة، ونرسي قواعد وأسسا جديدة تكون لنا المرجعية التي نحتكم إليها عند الشدائد.