هل سمعت عن رجال الزهور السعوديون؟

> «الأيام» عن "عربي بوست"

>

هي فرصة سانحة لالتقاط صورة سيلفي مع رجال الزهور السعوديون ، بيد أن المكان من أغرب ما يكون.

تنطلق 4 سيارات دفع رباعي، متسلقة أطراف جبال كثيفة الأشجار يانعة الخضرة، تعج مقاعدها الخلفية بالعائلات السعودية والسياح الآتين من أجزاء أخرى بشبه الجزيرة العربية.

وفي حين تقتحم السيارات غمامة ضباب باردة، يتوقف المسافرون بضع مرات لإخراج كاميراتهم وحافظات نقودهم، حيث تشرع أبواب سيارات الجيب مفتوحة على مصراعيها كلما مرت بأكشاك باعة العسل أو الفاكهة، أو بالأخص المنتج المرغوب أكثر من غيره: تيجان الزهور الحمراء والبرتقالية الجميلة.

يتوقف الزوار لالتقاط الصور، معتمرين أكاليل الورد تلك فوق رؤوسهم، في حين تفتر ثغورهم عن ابتسامات عريضة من أجل الشبكات الاجتماعية.

قصة هذا التاج التقليدي

تيجان الزهور المعروضة للبيع تلك في محافظة عسير ليست مجرد طُعم لاصطياد جيوب السياح التي تدرّ «الكاش» ولا مجرد لعبة ملونة يتباهون بها أمام أصدقائهم في الوطن.

بل الحقيقة إن هذه التيجان المعقدة هي في الواقع الرداء التقليدي لرجال يطلق عليهم «رجال الزهور»، الذين هم أفراد من قبيلة قحطان التي تحافظ على تقليد متوارث هو ارتداء عقد من الزهور والأوراق الخضراء من أجل التجمل والصحة أيضاً، وهي الآن تشتغل ببيع هذه العقود التقليدية لزوار المنطقة.

هم من قحطان.. أقدم قبائل المنطقة

تتركز قبيلة قحطان اليوم في جنوب شبه الجزيرة العربية، ويقال إن قحطان أقدم قبائل المنطقة. أما لقب «رجال الزهور»، فآتٍ من التقليد المتبع لدى هؤلاء القحطانيين بتزيين رؤوسهم بعقود وأطواق معقدة التنسيق من الزهور والنباتات والحشائش.

طبقاً للباحث المتوفى تييري موغر بحسب تصريحها لـBBC، فإنّ صنع هذه التيجان الزهرية يقع على عاتق شباب القبيلة ضمن إطار مسابقة جمال ودية، حيث يُدخلون على تصاميمهم إضافاتٍ زاهية الألوان قدر الإمكان كالياسمين والقطيفة.

أما متوسطو العمر من الرجال، فأسلوبهم بالمقابل أكثر رصانة، إذ يصنعون تيجانهم من حشائش خضراء كالحبق البري.

البعض يرتدي تلك التيجان يومياً لأغراض التجمل، في حين آخرون لا يعتمرونها إلا في المناسبات الخاصة كالأعياد الإسلامية، فيما يذهب فريق ثالث إلى ارتداء هذه التيجان عند المرض فقط، حيث يختارون أعشاباً وأوراقاً خضراء معينة حسب خصائصها ومنافعها الطبية.

ليست الزهور فقط ما يميز هذه القبيلة

لكن تيجان الزهر ليست العنصر الوحيد الذي يميز هذه القبيلة عن بقية الثقافة السعودية السائدة التي نشرتها النخبة الحاكمة المنحدرة من نجد والحجاز في أغلبها.

فعسير التي هي موطن رجال الزهور تقع على سفح مرتفعات تحظى بقسط وافر من الأمطار الغزيرة يفوق أي منطقة أخرى في المملكة العربية السعودية.

 جذبت هذه التيجان الكثير من السياح
جذبت هذه التيجان الكثير من السياح

ففي شهري مايو ويونيو  تصل حرارة مدن السعودية الداخلية إلى ما فوق 30 درجة مئوية. أما محافظة عسير التي تبعد 900 كيلومتر جنوب غربي الرياض، فتفاجئ ضيوفها وزوارها برياح قارسة غير متوقعة، بل وبعواصف مطرية أحياناً.

أما ذرى هذه المرتفعات وقممها التي تعد الأعلى ارتفاعاً في البلاد، فعامرة بالحقول الزراعية المتدرجة التي يفلحها على كتف الجبل سكانها الذين يعتاشون من زراعتهم صغيرة الحجم للقمح والبن والفاكهة.

تاريخ قبيلة قحطان حافل بالصعاب والمشقات، ولا أدل على ذلك من اسم المنطقة نفسها «عسير» المشتق من العسر والمشقة.

تروي حكايات الفلكلور المحلية أن صعوبة وبُعد مشقة جبال وتلال عسير الشاهقة وعسر تسلقها هي ما دفع بضع عائلات قحطانية فيما مضى، للجوء إليها واللواذ بها من الأراضي الخفيضة المحيطة، وذلك فراراً من جيوش الإمبراطورية العثمانية المحتلة قبل أكثر من 350 عاماً.

عاش القحطانيون في قراهم الصغيرة النائية فوق الجبال بحكم ذاتي واستقلال سياسي وفي مأمن من القبائل المجاورة حتى أواخر القرن العشرين، فمثلاً منطقة «حبالة» -المشتق اسمها من كلمة «حبل»- كانت الوحيدة التي يمكن الوصول إليها عبر شبكة من مقابض الأيدي والدرابزينات والسلالم الحبلية. وفي التسعينيات مددت الحكومة السعودية شبكة تلفريك في المنطقة، لتسهل الوصول إلى تلك المرتفعات النائية، بيد أن ذلك زاد من جدلية قضية دمج هذه القبائل في الهوية الوطنية وما إذا كانت هذه الثقافات الفريدة تستوعب التمدن والعصرنة.

 رجال الزهور السعوديون عاداتهم التي حافظوا عليها جذبت السياح

ولكن على الرغم من كل شيء، حافظ «رجال الزهور» على تقاليدهم بالفعل، والواقع أن التقاليد والممارسات التي كادت تندثر هي بعينها التي باتت تستقطب وتجتذب السياح إلى المنطقة.

طريق جبل سودة، أعلى قمة في المملكة، زاخر بالمطاعم الصغيرة التي يقف فيها القحطانيون المزدانون بأزهارهم الزاهية، يقدمون أشهى الأطباق الساخنة من لحم الماعز والأرز سواء للزوار أو لأهل البلد المحليين، وكذلك المرشدون السياحيون في حبالة يحيون الزوار متمنطقين برداء مخطط ملون ملفوفٍ حول الخصر.

وعكس نساء المناطق الأكثر جفافاً وحراً في المملكة واللواتي يرتدين ثياباً بسيطة، فإن القحطانيات يرتدين ملابس تقليدية أضيق قليلاً تدفئهن شتاءً عند انخفاض درجة الحرارة. ورغم أنهن لا يعتمرن تلك الأطواق الزهرية على رؤوسهن فإن أوشحتهن وعباءاتهن مزدانة بأشكال هندسية معقدة وبدناديش مبهرجة بألوان الأصفر والأزرق والأحمر.

وهنا تتعرف على ناطحات السحاب الترابية المصغرة

عند التجول في المنطقة لا يملك المرء إلا أن يتأمل في غرابة أبنية الطين والصخر التي يعود تاريخها إلى أكثر من 200 عام والتي تبدو كناطحات سحاب ترابية مصغرة.

لقد بنيت هذه البيوت متقاربة بعضها من بعض في تجمعات سكنية قبلية تشبه المساكن التي توجد بمدينتي صنعاء وشبام اليمنيتين، ما يدل على الثقافة المشتركة بين الدولتين والتي سبقت إنشاء الحدود حديثة العهد.

يشخص الزوار الفضوليون بأنظارهم ويمدون رقابهم ليلقوا نظرة فاحصة أكثر على أبراج المراقبة التي تتطاول فوق البيوت السكنية رغم أنها ما عادت قيد الاستخدام.

 يشبهون هذه المنازل الطينية بناطحات مصغرة
يشبهون هذه المنازل الطينية بناطحات مصغرة

تفاصيل المباني المعمارية معقدة، ما يمكن تلك البيوت من الصمود في وجه مناخ المنطقة، فأنظمة تصريف المياه تمنع ماء المطر من التجمع على الأسطح، وأحجار الطابوق القرميدية السميكة تسمح بحفظ الحرارة وتعزل الضجيج الخارجي، كما أن نوافذ البيوت صغيرة وقليلة ذات أطر زرقاء اللون، وذلك لإبعاد الناموس والهوام والجان، على زعمهم.

أما داخل البيوت، فمنظر بهي للناظرين، خصوصاً المجلس المعد لاستقبال الضيوف، فجدرانه مطليّة بألوان الأزرق والأخضر والأحمر والأصفر الساطعة، كما تزينها أشكال هندسية تعكس بنمطها هوية عسير الأصيلة، التي أدرجت على قائمة اليونيسكو للتراث الإنساني الثقافي عام 2017.

واليوم تستمد هذه الرسومات الجدارية إلهامها من الرموز المعمارية التي كانت في الماضي تبوح لزائريها بطبيعة سكان البيت، فالأنماط والأشكال ودرجات الألوان تطلع الناظرين على عمر أهل المنزل وجنسهم وتكوين عائلتهم، ذلك أن الجدران يجدد دهانها في كل عام في موسم الحج، تقوم بذلك نساء المنطقة اللواتي يتوارثن هذا الفن جيلاً بعد جيل بدعوة الأقارب من الأعمار كافة للمساعدة والمشاركة في هذا العمل السنوي لصيانة الدهان وتجديده.

لكن معظم القرى الصغيرة المنعزلة فوق أعلى القمم خاوية من أهلها

فضمن مشروع نُفذ في النصف الأخير من القرن الـ20  لتسهيل زيارة السياح للمنطقة وفتحها أمام أفواج الزائرين، عمدت الحكومة السعودية إلى إجلاء الأهالي قسراً من قرى كحبالة، مانحة إياهم الاستقرار في مناطق أحدث إنشاء وأكثر تطوراً ببنى تحتية وخدمات وتعليم أفضل.

باتت تلك القرى المهجورة مواقع سياحية لاستكشاف الثقافة العسيرية، فـ «رجال الزهور» أنفسهم صاروا يعودون مؤقتاً إلى قرى أجدادهم التاريخية لقيادة الجولات السياحية وأداء رقصات تقليدية خاصة بالمنطقة، وكذلك لتأسيس تجارتهم وأعمالهم في قطاع السياحة الاقتصادي.

هنا يكمن التناقض في هذه المنطقة قليلة التمثيل، فبطء دخول الحداثة إليها يهدد استمرارية أساليب الحياة التقليدية فيها، إلا أنه مع ذلك يزيد من جاذبيتها في عيون الغرباء عن المنطقة، ما يعزز في الواقع من إمكانية حفظ تراثها من خطر الاندثار.

فحبالة بالذات بمناظرها الخلابة وتاريخها شبه المنعزل تماماً قد حظيت باهتمام خاص من السياح.

لكن هذا لا يعني أن الثقافة القحطانية آخذة في الزوال تماماً، فمع أن «رجال الزهور» باتوا يعتمدون على اقتصاد السياحة لإعالة عائلاتهم، إلا أن الاهتمام الذي تشهده محافظة عسير قد أدى إلى خلق فرص أمام الأهالي ليشتركوا فعلياً في حفظ ثقافتهم بأيديهم.

2030  ومليار دولار لهذه المنطقة

فبعد سنين طويلة أُثري فيها الاقتصاد الوطني من اعتماده على احتياطي النفط، وضعت السعودية خطتها «رؤية 2030» التي تهدف إلى تقليص الاعتماد على عائدات البترول خلال العقود المقبلة، وترسم خططاً لتعزيز البرامج الثقافية وقطاع السياحة؛ فخصص مبلغ مليار دولار لترميم مواقع التراث وضمنها تلك التي في عسير.

وفي حين أن العديد من مبادرات القيادة المركزية التي تشبه «رؤية 2030» تركز على مجرد حفظ الماضي، نشهد كذلك مشاريع أخرى تعنى باستغلال العلوم والمعارف المحلية وتسخيرها للإنتاج الاقتصادي والثقافي.

ففي عام 2017، قامت مؤسسة «فن جميل» بتلقين فنانين محليين مهارات ضرورية للحفظ الرقمي لتلك الرسومات الجدارية العسيرية، وذلك بهدف تطوير أيادٍ منتجة على مستوى مجتمعي، دعماً للفنون التقليدية وفنونها. وبالمثل ترأست جامعة دار الحكمة في جدة مشروعاً آخر في عام 2014 بعنوان «عسير حلة العمران»، استخدم فيه الإعلام والعلم والفن والتقنية، للتشجيع على حفظ العمران جنباً إلى جنب مع دعم الفن المعاصر والتطوير المحلي والزراعة المستدامين.

نقرأ في كلمة رسالة المشروع: «منذ الأزل عاش العسيريون بكل فخر على هذه الأرض، وبنوا بيوتهم بطريقة مستدامة ذاتياً، وها هم الآن ثانية في مقدمة ركب الحداثة العالمية».

عندما يخيم الليل وتشق حافلات السياح طريق عودتها إلى الفنادق المجاورة، تقفر قرى الجبال، مثل حبالة، من جديد. من الصعب حفظ طوق الأزهار متى غادرت عسير، فبعد بضعة أيام فقط تذبل الأزهار وتجف وتتساقط بتلاتها حتى من أقل لمسة، كما يفقد الحبق والياسمين عطرهما. رغم أن أغلب النجاح الاقتصادي الذي حققته عسير مؤخراً قد ركز فقط على حفظ التاريخ المحلي، فإن الأمل معقود على هذه المبادرات الجديدة التي تشرك الأهالي في عملية صنع القرار، وذلك بغية جعل عسير منطقة ماض فريد ثقافياً وذات مستقبل زاهر أيضاً في آن معاً.

وتختم آنا كلينغمان، عميدة قسم الهندسة المعمارية بجامعة دار الحكمة: «الحقيقة أن أي هوية حقيقية تنبثق من شيئين معاً: الماضي والمستقبل، الذاكرة والإبداع؛ فلو أولينا الأولوية لأحدهما على الآخر، مهملين بذلك إما الذاكرة وإما الإبداع، إما المستقبل وإما الماضي، عندها يعاني جزء من هويتنا».

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى