استعادة الدولة لن تتحقق إلا بالقضاء على إيديولوجيا الطائفية والإقصاء

> د.باسم المذحجي

>
إنتلجنسيا Intelligentsia: هم الفئة المثقفة من أناس يمارسون نشاطًا فكريًا بحكم مهنهم، ومنهم رجال العلم والفن والمهندسون والأطباء والمعلمون... الخ والجزء الأكبر من الموظفين. وفي بلدان العالم الثالث ومنها اليمن تقوم الإنتلجنسيا بدور أساسي في حركة التحرر القومي، وفي نشر الوعي بضرورة الحفاظ على الشخصية القومية للبلد في وجه المؤثرات الخارجية.

ويقال أيضا بأن Intelligentsia “أنتلجنسيا” بأنها كذلك تدل على فئة من الناس ممن يمتهنون الأعمال الذهنية تمييزًا لهم عن ذوي الحرف اليدوية. ولمصطلح الانتلجنسيا عدة تعاريف ذات دلالات متقاربة، وحسب رؤية من يستخدمه، وتتفق أغلب التعاريف على أنه “معيار التحصيل العلمي والجامعي”، وهو المعيار الرئيس المعتمد في الكثير من التعاريف، لا سيما بالنسبة للمثقف في البلدان النامية ومنها بلدنا اليمن. وفي هذا الصدد يذهب ريمون آرون، وهو يتحدث عن شمال أفريقيا، إلى القول: يكفي أن يكون المرء قد قضى عدداً قليلاً من السنين على مدرجات الكليات لكي يتحقق هذا اللقب.. وأنهم سيستحقون هذا اللقب بمعنى أنهم اقتبسوا الكفاءة التي تمكنهم من إشغال بعض الوظائف.

في بلدي اليمن لقد كان الأستاذ الدكتور مبارك سالمين رئيس قسم الخدمة الاجتماعية بكلية الآداب جامعة عدن أول من أشار إليها، وذلك في قوله بأن الإنتلجنسيا بدأت تتضح على يد أبناء الطبقة المتوسطة في اليمن. والحديث عن الوطن والروح الوطنية في بنية ملكية مستبدة بالأرض والإنسان، هو في حد ذاته قول أول، وخطاب تغييري جديد بالنسبة للسائد الاجتماعي الذي يكرس الملك “الإمام” والرعية فقط، ولا مجال للوطن والمواطنة فيه.

بمعنى أن هذه التعاريف المتعددة تتفق على الجوهر، الذي معياره العام هو التحليل المعرفي/العلمي في حلته الابداعية المقترنة بالنقدية الموضوعية، أي نوعًا من المعرفة الحديثة، ولكنها تختلف في سعة الشمول للفئات المنضوية تحته. ونحن نطلقه في ظروف البلدان النامية، واليمن منها، على العاملين في إنتاج المعرفة ،والثقافة، وإعادة انتاجهما. وبدورنا استخدمنا المفهومين بمعنى واحد.. طالما أن المثقفين “... هم أولئك الأشخاص من المتعلمين الذين يمتلكون المعرفة، ولهم طموحات سياسية، وعلى أساس هذه المعرفة الموضوعية والطموحات السياسية وتأملاتهم الذاتية.. يسعون إلى التأثير في السلطة السياسية في اتخاذ القرارات الكبرى، والى صياغة ضمير مجتمعهم، وكذلك صياغة أحكامهم على الواقع دون أن يستخدموا هذه الأحكام مباشرة، أو بالضرورة من خبراتهم الحسية.

ذات يوم قال نابليون بونابارت: عندما أسمع كلمة مثقف أستل مسدسي على الفور، في واقع الأمر تكفي هذه الجملة للاستدلال على الصداع المزمن الذي يشكله المثقف في رأس السلطة الحاكمة بشقيها السياسي و الديني اللاهوتي.
و يشير المفكر برهان غليون إلى ضرورة توافر أمرين مترابطين بالنسبة إلى المثقف وهما :

1 - القيام بممارسة منتظمة للتفكير في الواقع الاجتماعي السياسي الاقتصادي وتطوير البلد.
2 - المشاركة في تغير الواقع ذاته.

وهكذا نرى أن مهمة المثقف في اليمن وبخاصة العضوي، يجب أن تكون مستمرة ،ودائمة التطور، وتكييف مهامها على وفق مستجدات الظروف الحسية الواقعية. بمعنى أن مهمة المثقف حالة متداخلة جدلياً مع التطور الفكري عامةً، وهي النافي الطبيعي والنوعي للمثقف التقليدي الخاضع لتأثيرات الايديولوجية الوصائية والخلاصية واللا عقلانية.

وتأسيسا على ما سبق، فحديثي مقتصر على جيل محدد من المثقفين اليمنيين، وهم الجيل الراهن، والانتلجنسيا والكفاءات الأكاديمية ، القادرة على رفع صوتها باتجاه مزيد من الديمقراطية ، والتحولات الديمقراطية المؤمنة أيضا بأهمية تبوء مناصب إدارية وسياسية في السلطة الوطنية لإحداث التغييرات المطلوبة.

ملاحظ بأن الانتلجنسيا في اليمن متأثرة بموروث الربيع العربي، والقوة الناعمة لدولة قطر ،وعدد من يتخذون تركيا منطلق لنشر أفكارهم الموجه صوب اليمنيين، وذات الحال لمن يتخذ من لبنان موقع لإيصال أفكار ه الإيرانية، وكلاهما متأثران بالانتلجنسيا المدارة  بمر ، ودهاء من اليسار الأمريكي في الغالب.

قال الكاتب أليكس كالينيكوس في كتابه الشهير الاستراتيجية الكبرى للإمبراطورية الأمريكية: إن المبدأ واحد، فمن حق الدول المتحضرة -لوفقا لهذا المنطق، بل من الواجب عليها استئصال أسوأ أنواع الشر ،والبربرية أينما وجود دون اعتبار أو احترام للحدود ،والسيادة القومية ،وذلك حتى يكون العالم أكثر سلاما وأمانا. حيث أشار الى أن الانتلجنسيا  الأميركية كانت ترحب بغزو العراق، وأفغانستان بعد أحداث 11سبتمبر - أيلول 2001 لكنها عدلت عن ذلك الدعم، والتأييد بعد ثبوت زيف رواية الاستخبارات المركزية الأمريكية بخصوص معلومات مخابراتية عن امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل.

وهكذا فتح هذا التطور البطيء في الأزمات اليمنية المتلاحقة، الباب للمشاركة الواسعة لفئة المتعلمين في اليمن ، كونهم نواة فئة الانتلجنسيا اليمنية، في أن تأخذ دورها المتصاعد في الحياة السياسية ، ومن ثم في بقية قطاعات الانتاج المدني. لأن السياسة التعليمية منذ بداية السبعينيات في اليمن قد تركزت في المدن الكبرى حصراً ولفترة طويلة نسبيا بعد تأسيس الدولة اليمنية الموحدة سنة 1990، ولذلك فانتشارها الواسع إلى الارياف محدود ماعدا ريف الحجرية التنويري المجاور لمحافظات لحج ، وإب والحديدة والضالع.

كان نمو المدن في اليمن شرطًا مسبقا لتغيير أنماط الهوية السياسية ،ولظهور النزعة الوطنية بوجه خاص. فإحياء المناطق المدنية قدر تعلق الأمر بالسكان وبالنشاط الاقتصادي، جعل أعداد كبيرة من اليمنيين يتواصل بعضهم مع البعض الآخر، كما أدى إلى نمو في الصحافة، وزيادة التعليم. ورغم أن نمو هذه المؤسسات كان ضئيلا جدا حتى بالمقاييس الإقليمية لكنه مثّل مع ذلك، يقظة لوعي سياسي هام لدى سكان المدن المتعلمين. فالصحافة والمؤسسات التعليمية جمعت معاً أعداداً من طوائف اليمن رغم اختلافها المتنوعة في إطار لم تكن تهيمن عليه بالضرورة، الهويات الطائفية والاثنية.

هذه القوى التغييرية في اليمن قد انطلقت من فئات رأسية أربعة هي:
1 - بعض من متعلمي الجامعات، وخصوصًا الصحافة والإعلام “المتنورين” في صنعاء وذمار وإب وتعز وعدن.
2 - فئة الضباط الذين خدموا في الجيش الجنوبي قبل تحقيق الوحدة اليمنية.
3 - الفئات المتعلمة اللبرالية المنطلق من نبتات المدارس التعليمية في عدن.
4 - بعض من تجار المدن، وخصوصًا صنعاء، تعز، عدن، حضرموت والحديدة.

ولكن يمكن تقسيم هذه الفئات، حسب معيار الاستمرار في مساندة صيرورة فكرة التغيير وسيرورته الاقتصادية السياسية والفكرية إلى ثلاث فئات:
1 - مثقفون مسايرون للتغيير.. يتركزون في الفئة الأولى والجزء القليل من الفئات الثلاثة الأخرى.
2 - مثقفون رافضون لفكرة التغيير.. ويقف على رأسهم الكثير من الفئات الثلاثة الأخيرة.
3 - مثقفون مؤيدون للتغيير وعاملون في حقوله.. ويتمثلون في المثقفين العضويين من الفئة الأولى.

- إشكالية الانتلجنسيا Intelligentsia الرثة في اليمن.
بعض الانتلجنسيا في اليمن، والذين لهم مكانتهم في الوسط الاجتماعي، والثقافي، دعوا لجملة من الغايات التطورية من أهمها، كما أعتقد:
- إشاعة وتحبيذ الفكرة الاستقلالية عن دول التحالف العربي.

- تحديد ماهية الهوية اليمنية.
- مناصرة الحق الطبيعي والمكتسب للمرأة في المساواة.
- حق الأمة في اختيار نظامها الدنيوي على وفق نظرية العقد الاجتماعي وليس الحق الإلهي كما تراهما جماعة الحوثي وإخوان المسلمين وغيرها كداعش والقاعدة.

- دخول الأفكار الحديثة وبالأخص ذات البعد المساواتي والتشاركي.
- التمرد العقلاني ضد الشعوذة الدينية والقيم البالية وتفسيراتها للظواهر الاجتماطبيعية.
- المشاركة السياسية للقوى الاجتماعية الحديثة بخاصة العضوية منها (كجماعة الأهالي).

- دعوة البعض منهم إلى الحرية الاقتصادية واللبرالية في الاقتصاد.
هل تكون مثقف السلطة أم مخرج لسلطة المثقف في اليمن؟
ترتبط الانتلجنسيا في اليمن بالبطالة، والتشغيل وإمكانية تسخير هل لجلب المال عند بعض اليمنيين.

لذلك فاليمن تستيقظ اليوم على واقع وهو إعادة صياغة اليمن وفق التطورات الراهنة المأساوية والكارثية.

إعادة صياغة اليمن اليوم لابد ويتم بناء على ركائز داخلية متينة نتجت عن تراكم الإيجابيات الكثيرة التي تجمعت أبان مرحلة حكم الرئيس الراحل علي عبدالله صالح، بمعنى لنبحث وندعم كل ما هو إيجابي وجميل إبان فترة حكم 34 سنة قضاها علي عبدالله صالح، رحمه الله، في السلطة. وخصوصًا واليمن اليوم قد توفرت لها القيادة السياسية المتنورة، والانتلجنسيا الواعية التي تثقفت بثقافة عصرية معمقة دون القطع مع ثقافتها اليمنية الأصيلة أو التنكر لها، والالتفاف الشعبي العارم، ومن الممكن بأن اليمن ستستطيع الخروج من أزماتها الراهنة في أقرب فرصة ممكنة.

- إعادة صياغة اليمن هو المطلوب من الانتلجنسيا اليمنية.
نحتاج اليوم في اليمن الى الحفاظ على روح الجماعة (The Groupism) والحفاظ على قيم التراتبية الاجتماعية والوظيفية والتضحية الفردية في سبيل الجماعة والوطن، واحترام التقاليد الأخلاقية الاجتماعية الموروثة.
فمشروعنا الأول : كان القضاء على التوريث، في حين مشروعنا الثاني اليوم هو مشروع استعادة الدولة من الانقلاب. وهذا المشروع الثاني لن يتحقق إلا إذا تم القضاء على إيديولوجيا الطائفية والإقصاء لدى البعض.

لدي رؤية انتلنجسية خاصة بي في اليمن، فكل أعمالي وكتاباتبي تهدف الى تشجيع الدولة الى بناء شبكة من السكك الحديدية، والاتصالات المتطورة من الجيل الخامس، والخطوط الملاحية، والخدمات اللوجيتسية، والمدن الساحلية، بالإضافة الى التطوير والاستثماري العقاري لـ 2500 كم ساحلي تمتلكها اليمن، وأنصح الدولة في اليمن الى التعاون مع المنظمين اليابانيين الصاعدين على تطوير الصناعة الثقيلة وصناعة الصلب والحديد، وبناء السفن، وأحواض السفن، وكذلك على تدشين معامل  إنتاجالبيتروكيماويات. كما كان لابد يتم توجيه الدعم الحكومي لتعزيز الصادرات، وتشجيع النقل البحري، وإقامة بنية صناعية حديثة. وفوق ذلك كله كان يكمن الالتزام السياسي الرائع بتحقيق الشعار القومي “دولة غنية ذات جيش قوي”.

رؤيتي الانتلجنسية في اليمن تقوم على ذات نهج وفكر وتوصيف الدولة اليابانية “بالدولة التنموية” لأن الأولوية القصوى لديها كانت ولا تزال هي التنمية الاقتصادية، وليس التنظيم regulation (كما في الولايات المتحدة)، أو الرفاه welfare (كما في أوربا)، أو الثورة (كما في الصين).

وبذلك فخلاصة الانتلجوستيا التي أقدمها لليمنيين تقوم على ذات الفكر الياباني، حيث أن فكرهم كان قائما على كيف يحافظون على تقاليدهم الموروثة، وقيمهم التقليدية، وسلوكهم الاجتماعي المميز، فلم يتنازلوا عنها حين كانوا في أمس الحاجة إلى استيراد التكنولوجيا والعلوم الغربية المتطورة. فتمسكت العائلة اليابانية بكثير من تقاليدها في تربية الأطفال، وطريقة الزواج التقليدي، إلى جانب الزي الموحد لكثير من عمال الشركات وموظفيها، وهذا ما نريده في اليمن.​

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى