ذات اليدين .. قصة قصيرة

> أعياد عامر

>
بهدوء وبخطوات باردة تكاد لا تحرك جديلتيها، خرجت من الفصل حاملة علبة إفطارها المزركشة بأشكال لم تكن تفهمها، فاقعة الألوان على ذوق جارتها أم علي، لطالما تساءلت الصغيرة (ما دخل أم علي بعلبة إفطاري، هل من الضروري أن نحتمل أنا وابنها سوء ذوقها؟) لم تحب الفوضى حتى بالألوان، كثيراً ما كانت تحب الألوان التي تذكرها بالبحر والسماء، كما لو أنها طائر نورس على هيئة فتاة..

جلست ابنة السادسة بمحاذاة الحديقة المسورة التي تتوسط الساحة الخلفية للمدرسة، وراحت تتناول إفطارها وعيناها لا تفارقان العشب الصغير الذي نما فيها مؤخراً.. الدهشة تغسل عينيها واللقيمات تتراقص في فمها وبحركة سريعة، خطت بضع خطوات للأمام وبنظرات فاحصة لموقع العشب قالت متسائلة: "هل كانت الحديقة تعلم بمجيء العشب؟ أم إن الأرض أخبرتها مسبقاً بحملها به؟، ياله من عشب جميل يتلاءم مع وجه السماء!".

لم يتبقَ الكثير لانتهاء الفسحة، تنهدت بحسرة وألحقتها بتساؤل آخر.. لماذا لا يدرسوننا بمحاذاة العشب الصغير ويدعوننا نصغي لمناجاته الأولى، حتماً سيكون أفضل بكثير من درس السمكة المحنطة في كتاب العلوم، على الأقل الشمس هنا تعانق كل شيء فتجعله أقل  بؤساً ومللاً..
تسللت من خلف سور الحديقة يدان نحيلتان مغبرتان تجران برميل قمامة ضخماً، ولحق صوت الجر صوت مبحوح متعب كل التعب، كلحن ضال خرج من ربابة مثقوبة.. تعالى صوت آخر حاد ينخر الآذان ينهال بكلمات من حميم كفيلة بأن تجعل وجه الصغيرة يمتقع رعباً.

عصفت الريح بالجميع وتوارى المشهد بالكامل خلف سور الحديقة، وسكن ذاكرة الصغيرة.. توقف كل شيء في عينيها مشدوهة تصلب السؤالات في ساحتها التي لا تعترف بالأجوبة الناقصة.
وببطء أخذت البرتقالة المتبقية في علبة الإفطار وهبت تنط كجدي صغير نحو سلة القمامة تقشر فيها برتقالتها تحاول إسقاط بعض من ذلك المشهد مع كل نطة دون جدوى.. كم كانت حريصة كل الحرص على الوفاء لليدين المتخشبتين واللتين لا تعرف عنهما سوى شكلهما الذي يوحي بأنهما لقيتا من الشقاء والعناء أشده.. كانت تفهم تلك التفاصيل جيداً ولو أنها لم تبصر سوى يديه ولم تسمع سوى صوته كانت تفهم رغم كل التمرد الذي مارسته الأسئلة..

وبينما كانت الصغيرة تقطع عهداً على نفسها بالوفاء والإخلاص لتلك اليدين، تسللت يدان من الشرفة التي تطل على ساحة المدرسة والتي تعلو برميل القمامة الذي وقفت بمحاذاته الصغيرة لتفي بعهدها
*يدان تصبان عناء الكون من الشرفة، هكذا وصفت المشهد ملامحها*

طمرت الأتربة والقاذورات رأسها حد أسفل قدميها.. مرت دقائق والصغيرة في مكانها بلا حراك كما لو أنها جثة بعثت للتو..
أصوات الطلاب تعلو بالدهشة والسخرية، وصوت آخر يقترب ويردد: "كل طالب على فصله" أخذ صاحب الصوت يسحبها من يدها ويقودها لمكان ما، عاد الصوت مجدداً
"هل أنت بخير هل أصابك أذى" وهو يغسل وجهها براحة يده، ما أن فتحت الصغيرة عينها أخذت تصرخ مشدوهة..
 "ذات اليدين.. ذات الصوت !!"
*النهاية*​

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى