لغز القصيدة التي حفّزت العشاق ليحملوا أقفالهم وغلقها على الجسور

> جواد غلوم

>
يتبادل كل من الرجل والمرأة الاتهامات بشأن الوفاء بعهد علاقة الحبّ الحميمية بينهما فنلحظ الرجل يتّهم محبوبته، بأنها أقلّ وفاءً وتضحيةً؛ إذ تقول قصة شائعة إن حبيبين اتفقا على إنهاء حياتهما انتحاراً بعد أن سُدّت كل أبواب الأمل بينهما للاقتران، فوقفا على أحد الجسور ليرميا نفسيهما في الماء غرقا، وكان الرجل هو الأسبق فرمى بنفسه وغرق؛ لكن المرأة لم تفعل ما فعله حبيبها فتراجعت وعادت إلى بيتها سالمة غير عابئة برحيل حبيبها، لهذا شاعت المقولة الساخرة المعبّرة والواخزة: "النساء أولا"، ولا يخفى على ما في هذه الجملة من هزّة مؤلمة تفوق التندّر والسخرية المرّة.

لكن المرأة هي الأخرى تتهم الرجل بانعدام وفائه، وكثيراً ما كان يتنقل حبيبها من قلب امرأة إلى أخرى، وقصة الفتاة الصربية المعلمة الجميلة "نَدي" مع حبيبها الضابط "ريليا" ليست قصة أسطورية، إذ كانا يلتقيان على الجسر القائم في ضواحي مدينتهما الصغيرة "فرنياتشكا" بشكلٍ دائم، ويقضيان مشوارهما ويتناجيان همسا وعشقاً هناك، لكن الحرب العالمية الأولى - وما أقساها - قد اندلعت، حيث استدعي الضابط الشاب العاشق "ريليا" للمرابطة في إحدى الجزر اليونانية تاركاً عشيقته تهيم كل يوم على الجسر وحدها وتذرعه طولاً وعرضاً انتظاراً لحبيبها دون أن تيأس، لكن العاشق المارق خذلَها وأحبّ فتاة يونانية، وأرسل إلى حبيبته الأولى بلاغاً بفسخ الخطوبة؛ وما أن صدمت بهذا الخبر حتى امتلأت بالحسرة والأسى وأخذت تذبل وتنحل تدريجيا إلى أن ماتت حزنا وكمَدا.

بعد هذه المأساة التي حلّت بالعاشقة "ندي" ومرور سنوات حتى كادت أن تُنسى؛ كتبت الشاعرة الصربية "ديسانكا" قصيدة (صلاة من أجل الحبّ) للتذكير بحادثة العاشقَين "ندي وريليا"، وفيها مقطع مؤثر تقول فيه:
تعالا؛ أيها العاشقان
أقيما برهةً في هذا المكان
قفا على الجسر
إنه مرتع الهوى المذبوح
هنا نحبتْ مشاويرُ الحب
أرميا مفتاح الحب في الماء ليخلد في قعر النهر

ديسانكا الشاعرة هي وحدها من خلّدت هذه المأساة التي حاقت بالحبيبين، وعلى إثر هذه الحادثة المؤسفة توسعت عادة غلق الأقفال على مفاصل الجسور ورمي مفاتيحها في النهر، كما تفعل الفتيات والفتيان حاليا على جسر الفنون في باريس الأشهر عالميا في رصف الأقفال وتراكمها باعتبارها عاصمة للرومانسية والحب ومدينة النور والأضواء الدائمة، رغم توجيهات بلدية مدينة النور بالتخفيف منها خوفاً من ثقل الأقفال الحديدية، والتي قد يصل إلى حوالي مليون قطعة، ولم تنفع توسلات البلدية للحدّ من هذه الظاهرة والتعبير بطريقة أخرى وأساليب متنوعة لإبراز الحب بتقليعة جديدة غير الأقفال، وذلك من خلال اللافتات التي تمنع وضع القفل، ولكن بطريقة مهذّبة كأن تقول: "باريس تشكركم لو امتنعتم عن وضع الأقفال"، أو "هلاّ عبّرتم عن حبكم بطرائق أخرى دون أن ترهقوا الجسر"، وتلجأ الحكومة إلى قطعها بمناشير حديدية بين آونة وأخرى، فهذه العادة ليست فرنسية أصلا كما يخيّل إلى البعض مع أنه الجسر الأشهر في إحكام الأقفال ورمي مفاتيحها في نهر السين إنما هي مستوحاة من الإرث الصربي مثلما هي خالدة عندنا في قصة قيس وليلى عند العرب، وروميو وجوليت لدى الإنجليز وقصة شيرين وفرهاد في التراث التركي.

وقد امتدت هذه التقليعة إلى مدن أخرى تقليدا لعادة العشّاق الصرب كما في روما وبرلين وكولن في ألمانيا وبروكسل ووصلت إلى موسكو أيضا، ولم تسلم جسور المدن الصغيرة من إثقالها بالأقفال في معظم الأمكنة حتى وصلت هذه التقليعة إلى كوبري قصر النيل في العاصمة المصرية القاهرة، وفي جسر ستانلي الواقع في الإسكندرية، وامتدّت هذه التقليعة إلى جسر "تيلي ميلي في العاصمة الجزائرية" مثلما وصلت إلى بصرتنا الفيحاء في العراق قبل بضع سنوات، وقام عشّاقها بإحكام الأقفال على أحد جسورها لكنها لم تستمر عندنا بسبب القيود المانعة المشددة التي فرضها أحد الأحزاب النافذة المحسوبة على التيارات الإسلامية في البصرة.

هكذا يفعل الشعر فعله لو صدق وخرج من لوعة المعاناة، فما أجمله لو جسّد الحب الحقيقي بمراراته وشقائه مثلما يمثّله بروعته وجمال لقاءاته ولمّ شمل الحبيبين.​

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى