قابوس.. بحكمته قاد عُمان خلال خمسين عاما

> علي ناصر محمد

>  علمت، بعد منتصف ليلة أمس، نبأ وفاة جلالة السلطان قابوس القائد والحكيم ورجل الدولة، الذي قاد سلطنة عمان من نصر إلى نصر، وسط العواصف التي مرت بها عمان والمنطقة بأسرها.
وبحكمته استطاع السلطان الربان، أن يقود عُمان إلى بر الأمان، ويبني دولة قوية مُهابة نأت بنفسها عن الصراعات والحروب الإقليمية والدولية.

وبوفاته خسرَت عُمان الأب والقائد والإنسان، وخسرت المنطقة بأسرها زعيماً عظيماً، وخسر العالم رجل السلام. وقد حزنت كثيراً لوفاة جلالة السلطان قابوس الذي تعرفت عليه عام 1981م، في مؤتمر القمة الإسلامي بالطائف، وأتذكر أنه بعد انتهاء أعمال المؤتمر، أخذ الرؤساء والملوك بمغادرة القاعة واحداً تلو الآخر، ولم يبقَ فيها سواي والرئيس علي عبدالله صالح، بالإضافة إلى الشيخ زايد والسلطان قابوس، بعد قليل غادر الشيخ زايد، وتبعه علي عبدالله صالح، لكنه قبل أن يخرج قال لي، وهو يضحك: "يظهر أنك ستبقى أنت والسلطان قابوس وحدكما!"، فقلت له: إنها فرصة للتحية والسلام وإذا تقدم نحوي خطوتين سأتقدم ثلاث خطوات. وابتسم وخرج.

حدث أن نادوني قبله فنهضت، وخطوت باتجاه الباب، وأصبحت قريباً منه. وقبل خطوة أو خطوتين نهض السلطان قابوس من مقعده وتقدم نحوي خطوتين، مادَّاً يده بالسلام، وتقدمت إليه ثلاث خطوات. كان يقف مبتسماً، وتصافحنا. وبادرني بالسؤال:
أأنتم مسافرون الآن؟ فأجبته: نعم.

قال: أتمنى لكم التوفيق، وأرجو أن نلتقي عما قريب، قلت: إن شاء الله.
تصافحنا مرة أخرى قبل مغادرة القاعة إلى السيارة، وكان هذا أول لقاء بيني وبين السلطان قابوس، وبداية تطبيع العلاقة بين اليمن الديمقراطية وسلطنة عمان بعد قطيعة استمرت من 1967م إلى 1981م.

وبعد ذلك اللقاء جرت اتصالات بين عدن ومسقط، عبر حكيم العرب الشيخ زايد، الذي نصحني بتطوير العلاقات وتطبيعها مع الدول المجاورة في صنعاء والرياض ومسقط، لأن من شأن ذلك أن يؤدي إلى أمن واستقرار المنطقة، بدلاً من الصراعات والحروب على الحدود مع هذه الدول وللاهتمام بتنمية بلدكم.
ولا ننسى دور الشيخ صباح الأحمد، وزير خارجية الكويت آنذاك (أمير الكويت اليوم) ومعالي أ. أحمد خليفة السويدي وزير خارجية الإمارات آنذاك، والجهود التي بذلاها من أجل تقريب وجهات النظر بين عدن ومسقط والتي توّجت بلقاء الكويت 1982م، وتوقيع اتفاق المبادئ في 28 أكتوبر من نفس العام.

وبعد مغادرتي للسلطة وعدن، لم تنقطع اتصالاتي مع الإخوة في مسقط، وفي أغسطس 1992م، وجهت لي دعوة لزيارة عمان، لأول مرة، وانتقلتُ بطائرة خاصة من البريمي إلى مسقط وأخذت الطائرة تقترب من مطار مسقط وكنت أستطيع من هذا العلوّ رؤية المزارع والطرقات والقصور والفيلات، الواقعة بالقرب من المطار في مسقط الجديدة، حيث هبطت طائرتنا المروحية في مهبط خاص بالقرب من دار الضيافة، الذي نزلنا فيه والذي يقع خارج مدينة مسقط، واستقبلنا المسؤولون من وزارة القصر السلطاني وفي مقدمتهم الفريق علي بن ماجد المعمري، رئيس الديوان، ووزير القصر، الذي دار بيننا حديث ودي حول الماضي والحاضر، وامتدّ الحديث إلى المستقبل أيضاً، واستأثرت العلاقات عن الماضي، بجزء من اللقاء وخصوصاً القطيعة التي استمرت منذ عام 1967م، حتى عام 1982م، عام تطبيع العلاقات بين البلدين، قلت له إننا جميعاً نتحمل المسؤولية عن ذلك، وقد تناولت ذلك في مذكراتي.

وفي نهاية اللقاء طلب الفريق المعمري، أن أرافقه بسيارته إلى مدينة مسقط وطلب مني أن نربط الحزام وقال: بدأنا نطبق هذا في السلطنة، ولهذا علينا أن نبدأ بأنفسنا ليقتدي الآخرون بنا، وقاد سيارته إلى أحد القصور، وفتحت البوابة من قبل أحد الموظفين، وإذا بنا في بهو كبير وأمامنا قصر وبالقرب منه شاهدت مسجداً، وكان الفريق يتحدث مع أحد المسؤولين في القصر فلفت نحوي، وقال لي: إن هذا هو قصر جلالة السلطان قابوس، ولم أشاهد أي مظهر من مظاهر الحراسات العسكرية حول مداخل هذا القصر، والتي اعتدنا عليها في البلدان العربية، فلا دبابات ولا مصفحات ولا مضادات طيران، وقال لي: "إن السلطان يتنقل أحياناً بسيارته مع مرافق فقط، وأحياناً ينتقل من منزله إلى المسجد للصلاة دون أي مظهر من المظاهر العسكرية حول المسجد"، ولكنه علق وقال: "إن هذا لا يعني أننا لا نهتم بحراسة وأمن جلالة السلطان قابوس، ولكننا نقوم بذلك بطريقة غير مرئية وليس بالمظاهر الاستفزازية للمواطن العماني.

وبعد هذه الزيارة عام 1992، زرتها أكثر من مرة قبل وبعد عاصفة الحزم 2015م، دون إعلان عن الزيارة وكنت ألتقي مع مسؤوليها، الذين كانوا يحرصون على أمن واستقرار اليمن والمنطقة وعلى الاحتكام إلى الحوار، بدلاً من السلاح، وكانوا ينأون بأنفسهم عن الصراعات والحروب في المنطقة، واتسم حكم جلالة السلطان قابوس على مدى خمسين عاماً بالتسامح والتصالح مع الذين اختلفوا معه في الداخل، ومع جيرانه في المنطقة وهو بحق أحد حكماء المنطقة العربية، وتنطبق عليه وعلى سياسته الحكمة العمانية.

ونحن واثقون أن عمان ستسير على نفس النهج الذي رسمه لها منذ 1970، حتى اليوم، رحمه الله وأسكنه فسيح جناته، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
وقد تابعنا، صباح أمس، أيضاً مراسم تشييع جثمان جلالة السلطان قابوس إلى مثواه الأخير في مدينة مسقط والانتقال السلمي السلس للحكم في مسقط بقيادة جلالة السلطان، هيثم بن طارق بن تيمور آل سعيد، ونتمنى له التوفيق والنجاح وللشعب العماني الأمن والاستقرار والازدهار، في ظل القيادة الجديدة لجلالة السلطان هيثم.​

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى