العملة الوطنية والمطبوع الجديد.. رؤية اقتصادية

> أحمد مبارك بشير

> في 2018 قدمت عدة مقالات عن انهيار العملة الوطنية وأثر المطبوع الجديد عليها، سأتناول ذات الموضوع من زاوية أخرى متعلقة بقرار المركزي بصنعاء منع تداول المطبوع الجديد من الريال اليمني، وفي المقال التالي لا أسعى أن أقف مع أو ضد، وإنما تحليل عام عبر الإجابة عن عدة أسئلة محورية، فلنبدأ:

* كيف يحدد سعر الصرف للعملة المحلية أمام العملة الأجنبية تحديدا العملات التجارية؟
- علينا التأكيد أن هناك عدة عوامل لتحديد سعر الصرف المناسب أو العادل للعملة المحلية مقابل العملة الأجنبية، تبرز في الآتي:

- احتياطي من النقد الأجنبي المعزز لسعر العملة بحيث إن كل دولار يساوي كل مطبوع من العملة، لديك دولار 1 احتياطي ولديك في مقابله ريال 1، إذن سعر الصرف 1 = 1، وبافتراض أن المطبوع المحلي السابق والجديد يساوي ما يقارب 3 ترليون ريال، يعني أن يكون لديك في الاحتياطي للمركزي 3 ترليون دولار، وهذا فعليا غير محقق والوديعة السعودية التي رصدت بحدود 2 مليار دولار بافتراض أنه العامل الوحيد هو الاحتياطي يعني ذلك أن الدولار يساوي 1500 ريال، وهذا العالم ليس أساسا وحدة في الاقتصاد اليوم، مثال ذلك الصين التي تمتلك احتياطا يعزز عملتها لتتفوق على الدولار إلا أنها تحارب لبقاء عملتها أقل من سعر الدولار لأنها دولة إنتاجية مصدرة، أي تساوي أو ارتفاع لعملتها اليوان يعني أنها تفقد ميزتها التنافسية في سوق المنتجين الكبار.

- حجم الصادرات والواردات يمثله الميزان التجاري الذي يحدد حركة التدفق النقدي من العملة ناتج عن تصدير المواد، أو توريدات مختلفة عن طريق السياحة أو واردات المغتربين للداخل.. أي دورة حركة الإنتاج للمنتجات والخدمات في الدولة.

* ما دور المركزي في إدارة السيولة وتحديد سعر الصرف؟
- العاملان السابقان أساسيان وليس بالضرورة توفرهما معا، فكلما كان البنك المركزي في الدولة قادرا على إشباع السوق من الطلب على العملة المحلية والأجنبية بشكل متوازن بما يلبي احتياج الحركة التجارية والإنتاجية في السوق، هذا يمكنه تلقائيا من إدارة السيولة النقدية والسيطرة على سعر الصرف في السوق والحد من التضخم غير الصحي فيه. مع العلم أن المركزي اليمني يتعامل من سنوات بتعويم العملة المرن، فلماذا لا يمكنه الاعتماد على السعر الثابت المرتبط بالدولار؟

هذه السياسة قد تكون ناجحة نسبيا، مثال ذلك الأردن، إلا أنه في المقابل محاذير اقتصادية تتطلب انتقال الأردن من هذا الثبات الذي يجمد حركة السوق الاقتصادية، وبالتالي لا يعبر ذلك عن قوة الاقتصادي بشكل كبير، هناك عوامل أخرى أضعفت قدرة المركزي اليمني عن السيطرة على إدارة النقد ليس منها التعويم، يبرز ذلك في:

- الحصار الاقتصادي غير المعلن، والذي جمد بشكل كبير حركة الصادرات والتي كانت تدعم الاقتصاد الوطني بما يزيد عن 7 مليار دولار سنويا أو أكثر بحسب بيانات الإحصاء 2014.

- نقل المركزي إلى عدن أوجد إدارتين غير متناسقتين للمركزي اليمني تتنازعان الصلاحية، وللأسف لم يحيد نشاطه عن التدخلات السياسية.

- تجميد حركة تناقل العملة للبنوك التجارية، مما أوقف قدرتها على فتح الاعتمادات البنكية، وسيطرة السوق الموازي (الصرافين) على عملية توفير العملة الأجنبية للطلب مما أضعف الإدارة الفعلية للمنظومة المصرفية عن التحكم في النقد المحلي والأجنبي المتدفق في سوق العرض والطلب.

* ما تأثير طباعة العملة على التضخم وانهيار سعر العملة؟
- حتى تكون الأمور واضحة، يتبع المركزي سياسة طباعة العملة كل فترة زمنية في الأغلب بين 4 إلى 6 سنوات تقريبا، لتجديد والحفاظ على سلامة العملة الوطنية.. المهم أن لا يتم ضخ عملة أكبر من حاجة السوق وحجم اقتصاد الدولة المتمثل في أسواق الإنتاج والاستهلاك وقدرة المركزي على تلبية الطلب على الأجنبي، فعدا ذلك سيؤدي إلى أن تقل القيمة الشرائية للعملة وترتفع الأسعار وتصل الدولة لحالة من عدم الاستقرار.. لكن ليس بالضرورة أن هذا هي النتيجة، ففي حال قدرة المركزي على إدارة تلك الفجوة وضمان الثقة بالعملة الوطنية، والمنظومة المصرفية فلن يحدث أمر خارج السيطرة.. وهذا ما أثبته المركزي في إدارته للوضع رغم طباعته للعملة في 2012 في إدارته للنقد حتى نهاية 2016..

في الجانب الآخر، فإن طباعة المزيد من النقود أحد أدوات السياسة الاقتصادية لإنعاش الاقتصاد والحث على زيادة الإنتاج.. عبر خفض السعر للمساعدة على النمو وجذب الاستثمار، حيث تكون النقود بمثابة دماء جديدة تضخ في شرايين الاقتصاد الوطني مما تؤدي إلى انتعاشه.

ولنكون منصفين فقرار الطباعة كان مقررا من المركزي في صنعاء في 2016 قبل نقل البنك، حيث تقرر تغطية الفجوة للعملة، وقد أحدث ذلك ضجة في حينها، أن حكومة صنعاء تريد إنهاك الاقتصاد بطباعة عملة جديدة.. عموما جاء القرار بعد نقل إدارة المركزي لعدن، وفعليا تم طباعة كمية من العملة بالشكل القديم فئة ألف ريال مدموغة بتوقيع المحافظ القعيطي والتي يتم تداولها في صنعاء الآن.. وجاءت بقية الطباعة من الفئات بالشكل الجديد.. الخطأ هنا أن الكمية التي كانت مقررة تضاعفت أضعافا كثيرة عن المقرر طباعته، حيث وصلت إلى طلب ترليون و700 مليار.

* لماذا اضطر المركزي لطلب وضخ هذه السيولة الضخمة، والتي أربكت في الحال الاقتصاد الوطني، وسببت مباشرة في انهيار متسارع لسعر الصرف وتضخم تجاوز تقريبا إلى 300 %؟
- مازال المركزي عاجزا عن إدارة السيولة النقدية المتدفقة في السوق، وعاجزا عن تغطية مرتبات الموظفين التي تزيد عن 75 مليارا شهري، وعاجزا عن توفير الطلب المتزايد للعملة الأجنبية للاستيراد الخارجي.. كل هذا أسهم في تحكم السوق الموازي بسعر الصرف والذي قارب حينها إلى 800 ريال لكل دولار، ومع تدخل الوديعة السعودية التي ضحت النقد الأجنبي بإدارة المركزي بعدن أعاد التوازن للسوق وفي التحكم في إدارته إلى سعر متقارب بين 500 - 580 ريالا، هذا نتج عن قدرة المركزي على تلبية الطلب في أكبر كمية من النقد الخارج متمثلة في شراء المحروقات، والحبوب، مما أدى إلى ضبط إيقاع سعر الصرف نوعا ما وفي فترة محدودة بيد المركزي.

إلا أنه في المقابل ظلت طباعة العملة تخرج للسوق دون وجود محفز من قدرة المركزي على التحكم في السعر، وزيادة الطلب على العملة الأجنبية، كما اضطر مركزي صنعاء إلى إعادة ضخ العملة التي كان ينبغي إتلافها إلى السوق، هذا صعب وعقد الصورة من جديد.. إلا أن هناك عاملا مساعدا آخر هو ضخ سيولة أجنبية عبر المانحين الدوليين في عدة مشاريع في اليمن للدعم الإنساني أسهمت في استمرار تدفق النقد الأجنبي، وبقاء استقرار الصرف على حافة 580 ريالا للدولار.

* إذن هل يمتلك المركزي الحفاظ على هذا الاستقرار لفترة طويلة؟
استمرار تدفق العملة الأجنبية من المانحين من جهة، وقدرة المركزي على استخدام الاحتياطي المتوفر لديه، وقدرته على الحصول على كمية تغطي طلب السوق من العملة، هذا يعزز قدرته على ذلك.
إلا أنه عندما يعجز عند ذلك سيبرز العطش من جديد في الطلب على العملة لغرض الاستيراد، خاصة واليمن كما نعلم يستورد أكثر من 75 % - 90 % من احتياجها منتجات خام أو تامة من الخارج تقريبا، وإن حدث هذا سيكون الانفجار عكسيا، أي السقوط السريع، وقد يتجاوز ألف ريال لكل دولار.

في المقابل إجراءات المركزي في صنعاء في محاولة للحد من التضخم بمنع تداول العملة الجديدة يبدو منطقيا من الوهلة الأولى، إلا أنه حقيقة لن يساهم في منع التضخم بل قد يصيب السوق بالكساد.

إن الحركة التجارية في البلد وإدارة النقد ليست في يد سلطة مركزية واحدة، بالتالي هذا الإجراء يفقد السوق أهم عامل من عوامل استقرار العملة وهي حركة الإنتاج والاستهلاك، والتي فقد منها من يوم إعلان منع التداول أكثر من 60 %، حسب التجار والمصنعين المحليين، قد يؤدي استمرار ذلك إلى تراجع القدرة الشرائية، وقد برزت نتائجها العكسية في المناطق تحت إدارة المركزي عدن، مع تعطش السوق إلى العملة الأجنبية، نتاج الخوف والشك في المنظومة المصرفية وفي الأحداث السياسية، هذا أسهم في إحداث مضاربة في العملة، مما حدى بالمنظومة المصرفية الموازية إلى اتخاذ إجراءات رفع أسعار التحويل بين المحافظات لتتجاوز 14 %، وهذا أضر بحركة الإنتاج والاستهلاك وتلقائيا المواطنين، إذن فالإجراء لم يكن مدروسا بما يحقق مصالح الأطراف وإنما تشتم فيه السياسة.

* ألا يعتبر الإجراء البديل في استخدام الرصيد النقدي والتطبيقات الرقمية لعمليات البيع والشراء خطوة مهمة في توجيه وحماية العملة الوطنية والدورة الاقتصادية ومنع عواقب الاقتصاد الخفي والمنظومة الموازية؟
- نعم، قرار توجيه الاستخدام نحو المنظومة الرقمية والتي تدار من المنظومة المصرفية أمر مهم في الحد من التضخم والسيطرة على العملة المبعثرة في السوق، والتي تصل إلى 3 ترليون ريال بدون أن يشعر بها المركزي والمنظومة المصرفية، إلا أنه في المقابل ليست هذه الإشكالية:
- هناك فقدان ثقة بالمنظومة المصرفية من قبل المواطنين يجب استردادها.

- ثقافة الشمول المالي بحاجة إلى بنية مؤسسية مركزية قادرة على إدارة كل المحافظات وضمان توافر النقد في حال الطلب، ونشر وتعميم هذه الثقافة بين المواطنين.
- البنية التحتية لشبكات الاتصال والإنترنت تعرضت للاستهداف والتدمير كلي أو جزئي بحسب المواقع مما يتطلب عملا كبيرا لإعادة الإعمار وتطوير تلك البنية، وما مشكلة الإنترنت اليوم بخافية على أحد والشبكة شبه المنقطعة للاتصالات في كثير من المحافظات اليمنية أمر واضح وجلي.

- يتم استهداف وتفكيك المنظومة المصرفية الوطنية بناء على عوامل سياسية، وهذا ما حدث مثلا لبنكي الأهلي وكاك.
- شبه الأمية المالية والمصرفية في كثير من المناطق والقطاعات الإنتاجية كالمزارعين والصيادين والأعمال الإنتاجية اليومية.

- عدم القبول والتنسيق في هذا القرار بين إدارتي البنك المركزي.
- مازال نصف أو أكثر موظفي الدولة بلا رواتب كليا أو جزئيا من 3 سنوات، وهم أحد القوى الدافعة لعملية الشراء والتسديد من البريد اليمني.

- إصدار قرارات مالية أحادية الجانب لا تنبع من تداول للمصلحة الوطنية العامة.
وفي أبسط مثال هناك عدة محافظ رقمية أطلقتها عدد من البنوك التجارية، يمكن الرجوع إليها لمعرفة الفجوة الكبيرة في نسبة الاستخدام بين الدافع والشاري، حقيقة ورغم بعض المحافظ صدرت من سنوات عدة إلا أنها لم تحقق النجاح المتوقع لبعض أو كل الأسباب السابقة.

* ما الذي نريد أن نصل إليه؟
- أي تحرك من أي طرف اليوم في حماية الاقتصاد الوطني تبدأ في تحييد الاقتصاد ومنه تحييد المركزي اليمني، ويتم ذلك عبر توحيد أو تنسيق الجهود لإدارة مشتركة، حتى وإن كانت هذه الإدارة خارج اليمن، وبعيدا عن تدخلات السياسة، ينبغي النظر أيضا أن الأسعار تفاقمت ليس فقط بسبب العملة وإنما بسبب مصاعب التوريد في النقل ومخاطر النقل إلى اليمن وفي الطرق الداخلية، أضف إلى ذلك فعليا توقف التصدير بشكل يحقق عودة إحدى عجلات تدفق النقد الأجنبي إلى اليمن، ودخول المنافذ ضمن إطار الحرب، فما زالت إدارتا البنك المركزي اليمني تعملان في إطار ضيق من دور المركزي الحقيق وجهوده وإطلاق الثقة في المنظومة المصرفية، حيث عليه أن يتوقف عن تكوين فروع للمركزي في المحافظات يفترض اليوم أن يوجه الجهد لدعم البنوك المختلفة كجزء من إدارة العملية والسياسة النقدية، إلا أنه مبدئيا ينبغي العمل على توحيد وتنسيق الجهود لتكوين لجنة أو إدارة تنسيق مشترك للإدارتين تنتقل لها صلاحيات إدارة المركزي اليمني تتكون من فريق من مركزي صنعاء وعدن وطرف محايد يقبله الأطراف لإدارة تلك اللجنة، وفي ظني أن الوقت حان لاختيار كفاءة قوية مثل المحافظ الأسبق محمد بن همام.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى