سلطان الطرب اللحجي وأسطورته فيصل علوي سعد

> د. هشام محسن السقاف

> فيصل علوي سعد من منطقة (الشقعة) الخصبة يتشبع طفلاً بموروث الغناء وسائدة، حيث للأرض والسيول والزراعة والرعي والحصاد والأفراح وزيارات أولياء الله الصالحين، أغانٍ وأهازيج ورقصات، وحتى للموت بكائياته المسماة (العداد).. فما بالنا وقد نشأ فيصل في بيت فني بامتياز.

فسكنته منذ البدء هواجس الفن كما تسكن الشعراء جنيات الشعر القادمات من وادي عبقر. ونراه محظوظاً وهو يردد مع الراديو الوحيد في القرية صوت العملاق الموسيقار فضل محمد اللحجي "مسك لي سيف في قلبي وقطع" وعندما تظفر به الندوة الموسيقية اللحجية بقيادة الأستاذ الرائد صلاح ناصر كرد، فإن الأمر لا يعدو ترفاً بل هو عمل جاد يصقل من خلاله صوت الموهبة الصغير ابن الشقعة باختبار طبقات صوته من خلال أدائه لأغنية "ليتني يا حبيبي" القمندانية، يتفوق فيصل، وربما برز فنانون كبار بدأوا حياتهم الفنية بين العثرة والعثرة، ولا أقل من أن يدهش زرياب لحج الصغير علية القوم في هرم الفن الغنائي اللحجي وعلى رأسهم كرد و أحمد عباد الحسيني ما جعل الأخير يحتفي به شعراً بالقول:

أنه الوجه الجديد

صاحب الصوت الفريد

جاء يحيي من جديد

فن هارون الرشيد

وغنيت هذه الأغنية من ليلتها قبل أن يكتمل اللحن (القنبلة): "باسألك بالحب يا فاتن جميل"، الأغنية التي هزت الأوساط الفنية في لحج وعدن وكرست فيصل علوي فناناً ذا شأن كبير ابتداءً من عام 1958م.

ولكن المجد ليس تمراً أنت آكله، فعلى الأسمر الصغير أن يجد ويجتهد كما فعل زرياب العباسي ليجد نفسه قاب قوسين أو أدنى من دائرة الغيرة الفنية مع معلمه إبراهيم الموصلي، فرحل إلى الأندلس. أما فيصل فلم يرحل وقد كانت الأجواء اللحجية تفسح مجال التنافس بين الندوتين الموسيقيتين اللحجية والجنوب بقيادة الكبير في الفن والنضال عبدالله هادي سبيت وكرد وفضل محمد وغيرهم. وإذا كان لا بد من رحيل فيصل بعد أن ذاع صيته فالمقصد هنا زنجبار في ضيافة ورعاية (زنجبار)، وهو على رأس الندوة الفضلية إلى جانب أسماء شامخة في الفن أمثال علي حسين الكيلة وعبدالقادر الكيلة.

كان فيصل قد أجاد العزف على العود والكمنجة في فترة وجيزة ليمتلك أدواته الموسيقية ليمازجها بصوته المخملي الرائع، ويتشرب أصول الغناء من مصادرها على ضفتي تبن ودلتا وعندما يعود إلى المحروسة بالله (حوطة) مزاحم بلجفار ليقترن برفيقة عمره (أم باسل) مشيعاً بوداع حار من (سالمين)، يكون قد استوى عوده قادراً على وضع مداميك مدرسته الفنية الغنائية اللحجية الثالثة في دورات الغناء اللحجي.

حملت الستينيات من القرن الماضي متغيرات مهمة، أبرزها اندلاع الثورة في الجنوب لتحط بكلكلها في دائرة الاهتمام على حساب الفن كأي ثورة في العالم . لكننا هنا سنكتشف حالة فريدة في الجنوب، حيث هيأ الغناء والإنشاد والشعر لقيام الثورة وواكبها ولم يكن قط مناسباتياً مرتبطاً بلحظة ثورية أو أيديولوجية معينة ينساه الناس بعد حين قصير.

يقول أ. د. أبوبكر السقاف: "العمل الفني لا يمكن شرحه وتحليله بإرجاعه بصورة كلية ومسطحة إلى مصادره الأيديولوجية ذات العلاقة الوطيدة بالمجتمع الذي يعيش فيه الفنان.. فعمل كهذا يسلب الفن روحه ويقدمه مفرغاً مما يجعله فناً وإبداعا، ويسمى عادة بالاستقلال النسبي للأفكار والنظريات وكل إبداع فني أو أدبي.. وإذا كان هذا يصح بالنسبة لفنون الرسم والشعر والأدب فإنه ينطبق على الموسيقى أكثر من انطلاقه على أي لون آخر من ألوان الإبداع"

وفيصل لم يكن بعيداً عن أطوار الثورة، فقد انتدبه للالتحاق بالندوة الفصلية بأبين واحد من أبرز الوجوه الثورية (سالم ربيع علي)، وهو في طور العمل الاجتماعي والرياضي والفني ناهيك عن السياسي السري حينها.
غنى فيصل "الاستشهاد غاية كل مدرم"، و"سرت ليلة على الفئران حية" و"كل شيء بنجي عليه" و"صوت الهاون يشجيني".. ألخ. ويغطي فيصل فضاء فنياً بعد توقف الندوتين الموسيقيين اللحجية والجنوب بتأسيسه وآخرين ندوة تبن الموسيقية.

وكان رائداً بكل معنى الكلمة، والقول لزميله الفنان فضل الكريدي، بإخراجه الأغنية اللحجية من حوض تبن الموسيقي إلى الخليج والوطن العربي، وإعادة صياغته للقمندان لحنياً بإضافات لن تكون ممكنة لأحد لا يمتلك المقدرة الخارقة لفيصل علوي على إدخال ما يسميه هو بـ (الفيصليات).
على اللحن القمنداني، وهو ما دعاني للقول غير مرة أن للقمندان إذا سمع أغنيته "يا قلبي تصبر" بأداء فيصل علوي خرج عن وقاره و(اشترح) في قارعة الطريق.

يقول فيصل: "وجدت تراثاً غنياً بالألحان الجميلة فوظفت هذه الألحان وسكبت عليها من روحي وأكملت الجمل الموسيقية في هذه الألحان والأغاني الخالدة"، حيث نقل فيصل علوي (القمندان) إلى مستوى شعبي واسع في الفضائيات اليمنية والعربية. واستطاع أن يخترق حصاراً كان على القمندان مطلع السبعينيات الماضية في الإعلام الرسمي بإحيائه من جديد وبجلباب قشيب من (الفيصليات) في المخادر التي تقام في لحج وعدن وأبين وغيرها.

وما كان لفيصل علوي أن يتّجه للتلحين في منطقة ترفل بفن القمندان وفضل محمد وسبيت وكرد والصنعاني وعبده عبدالكريم وغيرهم، لولا هذه الملكة عالية المستوى ومقدرته الكافية لأن يتخلق موسيقيا وأداء ويضع (لبنته) الخاصة في قمة هرم الغناء اللحجي الجميل والعذب، مؤسساً بجدارة مدرسته الغنائية الثالثة في دورات الغناء اللحجي.

كانت باكورة ألحانه أغنية "فوش له قلبي صبر"، ثم أغنية "يا ضنيني" الرائعة و"يا فاتن جمالك".. وتتوالى السلسلة الذهبية لألحان تمتاز برونقها الخاص وببصمة موسيقية لحجية لا تكرر أحداً بقدر ما تكرس فيصل أستاذاً في التلحين كما هو سلطاناً في الأداء والإطراب والإمتاع المشبع للذائقة الفنية الجمعية في لحج وخارجها.
كانت ألحانه دفاقة فياضة مثل سيول وادي تبن تتجاوز ما صاغه لحناً الرائد العظيم أحمد فضل القمندان، أو رواد الأغنية اللحجية بعد موت القمندان، وهذه الوفرة اللحنية لم يفطن إليها أحد مع ما امتازت به من جودة وإجادة، أصالة واستقلالية تجعلنا ننحني احتراماً لرائد أعطى الكثير لفنه وموسيقاه، ولم يأخذ شيئاً من الرعاية والاهتمام.

وما استطعنا توثيقه من ألحان فقد شملت الشعراء: صالح نصيب، أحمد صالح عيسى، أحمد سيف ثابت، أحمد عباد الحسيني. الأمير عبده عبدالكريم، سالم علي حجيري، أكثر من مائة أغنية، مهدي حمدون، محمد حسين الدرزي، محمد النعمان، محمود علي السلامي، أحمد صالح اللبن. عبدالحليم حسين عامر، صالح فقيه، عبدالله هادي سبيت، محمد علي البرحي، عبدالله محمود الشريف، محمد قاسم مثنى، الأمير أحمد منصر، بن عسكر، محمد عبود العمودي، محمد بازهير، علي دبا، صالح فارع، سيف صلوح، عبده علي ياقوت، أحمد سعيد دبا، عبدالصفي هادي، علي ناجي برتوش، عبدالله خادم، صالح سليمان، فضل شوكره، حسين أبوبكر المحضار، محمد سالم بن بريك، أحمد بو مهدي، علي خفاجي، وعبدالله محبوب.

رحم الله أبا باسل

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى