لدغة القرن وصهينة الوعي.. في ظروف الدولة القومية.. وضع عربي دون تغيير

> د. أحمد سنان

>  اعتاد المسلمون والعرب على وجه الخصوص تقبل اللدغات المتلاحقة دون أن يرف لهم جفن.

طوال التاريخ كان الأعراب يلدغون من جحور الروم والفرس لدغات مختلفة منها الخفيفة ومنها شديدة الألم. حتى لم يعد لكل تلك اللدغات ألم في الجسد العربي، لأن الأعراب فقدوا الإحساس بها. على أن هناك لدغات تاريخية غائرة عميقا في الوجدان الإسلامي والعربي، وهي موجات متتالية في كل قرن منذ سقوط بغداد الأول بأيدي المغول وحتى بعد سقوطها الأخير بيد أصدقائنا الحماة، إنها حرب صليبية كما قال بوش، لكنها صليبية لخدمة أعداء المسيح قبل أي طرف آخر.

بين السقوط والسقوط ثمة سقوط أخلاقي أصاب العرب دون إحساس به، إنه إحساس رخو ناعم ولذيذ لدى صف طويل منهم، تحولنا بموجبه إلى ممولين للسقوط والإسقاط لبعضنا البعض، لا يهم للقبيلة وعصبيتها حماة أشاوس وليس للأرض من أحد. بين ذاك السقوط وهذا يؤرخ لسقوط العقل في براثن النزق وثقافة الموت على حساب الحياة وقيمة التعمير والاستخلاف، لم يعد العقل يشكل قيمة ذات معنى.

كل قرن يبدأ العرب حياتهم فيه بلدغة. بدأ القرن العشرون تباشيره بلدغة (الثورة الإنجليزية الكبرى) عفوا (العربية الكبرى) بقيادة لورنس الذي وهبهم الإنجليز إياه كي يحررهم من المحتل التركي. لم يجد العرب حرجا في انتقال عبوديتهم لمالكهم الجديد حكم صاحبة الجلالة. بل هناك من يحن لها بعد رحيلها، هذا الحنين وليد العجز الناجم عن عدم القدرة على تحقيق أي إنجاز في ثنائية الوطن والمواطنة.

ليس هناك من مشكلة، اعتاد العرب على التبعية برضاء نفس لا يضاهى منذ أمد بعيد. فهم إما في خدمة كسرى أو في خدمة القيصر، الفرق ليس كبيرا بين أن يكونوا حكاما صوريين على قطعان من الجوعى والمرضى المتناحرين، أو أن يكونوا خداما حقيقيين في قصور فارس والروم.. التاريخ لم يغير في وضعهم كثيرا برغم ما أحدثه على المستوى الكوني.

في ظروف الدولة القومية بقي الوضع العربي دون تغيير، فريق يدعي الانتماء وآخر يدعو للقطيعة لصالح قومية لا وجود لها، يتغير الطرف المتبوع ويبقي التابع على حاله.

نحن قوم أدمن اللدغ من كل جحر مرات لا حصر لها. نلدغ ولا نبالي. أدرك بلفور الحقيقة ومضى يقدم وعده للصهاينة بمنحهم فلسطين، لم يقل العرب شيئا ذي بال، صرخ البعض ثم ذهب في حال سبيلة. وحتى "مكماهون" كان يدرك أن الأعراب فاقدون للإحساس بما يصيبهم من الخيبات، ومع ذلك واصال ادعاءه بمواساة الشريف، والشريف نفسه كان يعلم أن خطابات صديقه الغرامية ليس لها قيمة في سوق العلاقات الدولية، لكنه استمر على إدمانه لها.

كانت لدغة بلفور كفيلة بقتل كل الخدم في المنطقة إذا كانوا أحياء، ولكن للأسف الأموات لا يشعرون. هذه الحقيقة يدركها ترامب تمام الإدراك، أليس هو رجل أعمال كثير العلاقات والصفقات؟ لابد له أن يدرك صفات ومزايا الشركاء والخصوم، الدافعون والمدفوع منه لهم. وهكذا، من الوهلة الأولى قرر أن العرب هم الملزمون بالدفع وإسرائيل هي المخولة أن يدفع هو لها.

لقد أدرك ترامب أن الأعراب تجار اللحظة، ليس لهم في المستقبل الذي لا يعنيهم ولا يحملون عبئه. من يشتري بحر الشمال لا يمكن أن يكون معنيا بالمستقبل، المستقبل يحتاج للتفكير والتفكير يحتاج إلى......
الحقيقة تجر أختها دائما، الذي يتبرع بمليون دولار لحديقة حيوان في الغرب بينما يموت آلاف الصومال بسبب المجاعة يمكنه أن يقرر أن تحرير أفغانستان من حكامها أهم من استعادة فلسطين.

تجار التجزئة يخافون على دكاكينهم العتيقة من أبنائهم وإخوانهم، ولا يخافون الغرباء، لكن دكاكينهم تلك ليست في مأمن دائم. نعم يخافون على حوانيتهم الاقتصادية والسياسية التي تعشعش فيها العنكبوت من سطوة التجار الكبار فيما لو هم فكروا بإعانة شقيق بائس، هم يسعون لتدمير دكاكين جيرانهم لحماية دكاكينهم الكئيبة.

ترامب أدرك ذلك بخبرته الطويلة في سوق المال والأعمال التي لا يفهم الأعراب فيها، على أساس ذلك أخذ يبتز ويبتز من الأموال العربية ما تنوء به الخزائن ومن المواقف ما يندي له الجبين. باشر ترامب بنقل سفارة أمريكا إلى القدس بعد أن ظلت بلاده مترددة لزمن طويل معتقد أن رد فعل الأعراب خاصة أغنياءهم سيكون مدمرا عليها، لكنه هو فقط كان يدرك أن ردة الفعل ستكون بردا وسلاما وأموالا وفيرة وفرص عمل للعاطلين الأمريكان. كانت مجرد جس نبض أولي، بعدها اعترف بسيادة الصهاينة على الجولان وظل الأعراب صامتين ومتشبثين بكراسيهم، البعض كان يعتقد أن الأعراب اتخذوا ذلك الموقف نكاية بالأسد، لم يدرك هذا البعض أنه موقف العاجز غير القادر على التفريق بين الدولة السورية والنظام الحاكم فيها، بنفس القدر الذي لم يستطع فيه النظام العربي قبل ذلك من التفريق بين الدولة العراقية وصدام حسين.

تعود ترامب أن يكون الرابح على الدوام، حتى إن كان يريد الخسارة، لقد كانت لديه هواجس للخسارة حيال لدغة القرن 21. ظل يؤجلها لزمن، كان لا زال لديه بعض الشكوك في نوايا أصدقائه من العربان، كان خوفه على مصير إسرائيل يدفعه للتأجيل حتى يحين الوقت، كان لا يزال يأمل أن يصدق تحذير بعض المستشارين من الرد العنيف للعرب. ولكنه تأكد بالملموس من صدق المتنبي أنه (ما لجرح بميت إيلام).

لم يقل العرب شيئا حين صدع ترامب بأن القدس وجل فلسطين للصهاينة، بل سيدفعون مالا وكرامة، فاللدغة الجديدة كما يقولون فيها إيجابية أو هكذا يقولون. وجد عباس نفسه وحيدا يخاطب العالم بصوت مخنوق.

أخيرا أدرك الفلسطينيون أن ليس لهم إلا أنفسهم وليس للقدس وفلسطين إلا هم، والآن يدركون أن فلسطين حقهم وحدهم والقدس عاصمتهم وحدهم، والآن تأكد لهم أكذوبة مركزية القضية الفلسطينية للعرب وغير العرب، الآن أصبحوا مدركين لو أن الأعراب منحوهم عشر الموارد التي يبددونها على تدمير بعضهم لكانت دولة فلسطين قائمة منذ أمد.

ليس من الحكمة التعلق بتلابيب العرب بينما تضيع الأرض، أرض العرب تسير كلها على درب الضياع، الإسكندرونة ليست أول الأرض الضائعة ولن تكون إدلب أو طرابلس الغرب آخرها.

ليست الأرض وحدها تذهب، يذهب الوعي العربي رويدا رويدا نحو الصهينة، (صديقك المخلص) هكذا خاطب أحدهم شيمون بيريز، (لم تكن إسرائيل عدوا لنا) قال آخر، وقال عالم منهم أن (الذبيح إسحاق وليس إسماعيل) هذا الطرق على الوعي الجمعي بدأ يثمر، أحدهم يهني بنيامين نتنياهو من الحرم وآخر يعبر عن إعجابه به بل ويغني له عبر اليوتيوب، وآخر يناديه باسم التحبب (بيبي) الذي نادته به هيلاري كلينتون في كتابها (خيارات صعبة)، يجري كل ذلك بينما مبادرة السلام التي نسبت للعرب عام 2002 لا زالت ضائعة في حمام الإرهابي شارون، لا نعلم إن كان تبول عليها.

كل المواقف يمكن تغييرها بتغيير السلوك السياسي، لكن صهينة الوعي كي لنا تغييرها.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى