حين يتناطح الكبار

> د. علي عبد الكريم

> مدخل.. حين يتناطح الكبار فلتبيد الكورونا ما تريد.. باتت سيدة الموقف وهم يتقاذفون التهم عمن كان وراء مؤامرة هنا أو مؤامرة هناك!

لعبة الأمم.. جرثومية الإبادة عن بعد.. تكية التربع على عرش التفرد والابتزاز بعد أن خلا الجو لكبير الكبار بعد هدم الطرف المناظر قوة ومواجهة.. باتت معها مرحلة ما بعد انتهاء فترة الحرب الباردة أمرا واقعا وصعود قوة النجم الأوحد، ولكن أمور الكون لا يمكن أن تسير وفق هوى شمشون بعد أن هدّ المعبد على رؤوس الجميع وصعد منفردا على المنبر، سمه منبرا أو إن شيئت سمه المذبح، ليغرد منفردا، فما هكذا تستقر أمور الكون.

ففي البدء تم تخليق أسامة بن لادن وطالبان واستأسدت خيول العرب الأفغان وجيء بجورباتشوف على ظهر جواد أعرج وكان ما كان. أطيح بالقاعدة ورميت جثة بن لادن إلى البحر تتناهشه أمواج وأسماك عولمة صاعدة هوجاء ومعها تتصاعد أصوات من خارج التاريخ تطرز خرائط عوامل عولمة رأسمالية تهيمن وتعيد تنميط العالم وأمركته.. هيمنة عولمية ما لها وجه بطابع إنساني، لها فقط قدرة على التمدد والاكتساح وعلى فتح الأسواق بالمجان، وتحركت عولمية رأس المال تعيد تخطيط عالمية الأسواق وعالمية الإعلام وتحول الكون، كما قيل، قرية صغيرة لا كبير فيها غير رأس المال يعيد هندسة العالم وفق عولمة لا تنتظر المساكين الجياع الذين بات عليهم أن يكتفوا بالفتات، لكنها لا تنسى وهي تجرد شعوب العالم ودولها من قواها الناعمة، حيث أتاحت وفتحت الأسواق أمام حركية رأس المال وانتقال السلع، ولكنها منعت مطلقا حرية تنقل العمالة، ماهرة وغير ماهرة، وفتحت الأبواب واسعة أمام إعادة رسملة الأرباح ولو على حساب اقتصادات وشعوب الأسواق التي حددتها كأهداف توسعية لها، ولأن عالمية رأس مال تجر معها المتناقضات والتناقضات التي تلعب أدوارا سلبية لغير صالح الشعوب وما يعتمل بداخلها من تناقضات أساسية وثانوية تقرأ بأن عولمة رأس المال لا تعمل على المدى لمصالح وطنية، بل كانت تقرأ بوعي بأن من يزرع قرن الشيطان يتوخى بالأساس السيطرة والاستحواذ مع إدراكها حجم التناقضات الداخلية وحجم تأثيرات الصعود والهبوط والأثمان الباهظة المصاحبة لإعادة توطين مخرجات العولمة، وما يصاحبها من بروز قوى جديدة ستتمرد على مرتكزاتها ومنطلقاتها وعلى أعرافها المفروضة بالقوة ستنقض، وعن المصلحة الوطنية ستبحث ولم يدر بخلد من نمطوا العالم وفق هندسية عولمية أمريكية الاتجاه رأسمالية المحتوى الحاملة داخل أحشائها عوامل فنائها وعوامل تآكلها بفعل تناقضاتها الداخلية.

وقد كان ما كان حيث تمثل بصعود مظاهر مقاومة بأشكال شتى تمثلت للوهلة الأولى بالسماح بالبروز والصعود لما سمي فترة.. بالفايف دراجون.. النمور الخمسة.. النمور الآسيوية. لكن سرعان ما تم ضربها عبر تحركات ما عرف بالأموال الساخنة ومضاربات العملات والأسهم، وتلتها مرحلة إعادة توطين الاستثمارات الكونية ضمن مناطق تتسم بتوافر كفاءة عناصر المنافسة والاستيعاب معا، وقد كانت الصين موقع الاستيعاب الأكثر إغراءً لإعادة توطين الإنتاج والاستثمارات وانتقال عناصر تكنولوجيا الإنتاج من بلدانها، جريا وراء عمالة فنية مدربة رخيصة وسوق كبرى استيعابية، وترافق معها أيضا صعود ما سمي بدول "البريكس"، أي الاقتصادات الناشئة.

وقصة صعود البرازيل ماثلة، حيث ضرب الرئيس (لولا دي سلفا) درسا لن يُنسى، فقد رفعت أمامه إمبراطورية رأس مالية الشيطان العصا ملوحة له... إلى أين؟! ممنوع تجاوز الخطوط الحمر. وما كادت مسيرة لولا تصطدم حتى برز التنين العملاق الصيني، وتابعه الهندي الأول ينهل من معادلة أزعجت سوق رأسمالية عولمة الشيطان تحت قيادة حزب ماو القائد التاريخي يوجه سفينة الإبحار وفق معادلة صينية الاتجاه والمحتوى بمضمون ومفهوم إشراكية السوق ينسجم ومضمون ترانيم اللحن الصيني المميز المتراقص مع إيقاعات ومتطلبات سوق حرة لا تلغي جوهر العدل الاجتماعي، وتستجيب لعولمة تفرض نواميسها، لكن أمرها لم يخترق سور الصين العظيم.

وعلى المقلب الآخر مارست الهند طقوسها البوذية، رأسمالية الاتجاه، مشبعة بتعاليم غاندي حتى انحرف اليمين المتطرف عنها، فيما أعادت روسيا متشبعة بألم مرحلة الهبوط التآمري من مظلة المجد السوفييتي وتقاليد روسيا التي تستدعي إرثها عند الضرورة، وقاموسها لإعادة صياغة الحياة وفق منظور وطني يحقق مصالح ومكانة روسيا، وقد تبلور ذلك فيما شاهدناه من صراع ضار على كل المستويات لعل أخطرها تمثل باستعادة القرم وقضايا أخرى لا تقل أهمية ما تزال معالمها جارية من حروب الغاز إلى حروب إثبات الوجود في المنافذ والممرات الدولية ومنطقة الشرق الأوسط.

والكبار الكبار حين تتعرض مصالحهم للمخاطر هنا أو هناك أو تلوح في الأفق نذر إنذار هنا أو هناك تكشر عن أنيابها وتبدأ دورة أخرى من صراعات القوى، وكل يشهر سلاحه دفاعا عن مصالحه، وهكذا بدأت حروب التجارة والعملات وبدأت رأسمالية التمدد والهيمنة والابتزاز تمارس ضغوطها عبر العقوبات تارة، وتارة عبر تصعيد موجات ما بات يعرف بحروب الجيل الخامس، وما أدراك ما الجميل الخامس؟! من عمولات وسرقة أوطان ودفن عملات عبر التلاعب بأسعار الصرف وعبر التلاعب بأسعار الفوائد والإغراق، وتارة أخرى عبر ضرب الأسهم والسندات، وكلنا يعرف مقدار ما لدي الصين من سندات الخزينة الأمريكية وكمية احتياط الروس من العملة الخضراء الشريرة.. حتى حانت لحظات تصفية الحسابات ولو على رؤوس الأشهاد وعبر آليات أراد من خلالها يمين اليمين في الأطلنطي وما وراء الأطلنطي أن يكسب جولات الانتخابات حتى وإن قاد مثل هذا التوجه لتدمير الاتحاد الأوربي وصعود نجم البيريكس بوريس جونسون، وخليله ترامب يحث الخطى وخطوات الدمار، كسبا لانتخابات مقبلة مهد لها بصفقة القرن تمهيدا لصعود يمين صهيوني على حساب القضية الفلسطينية، كسبا لأصوات صهيونية رأسمالية تدير شؤون الكون.

وقال ترامب ما قال حول كارثة كورونا وما أومي إليه من إيماءات أساء خلالها للصين لسبب أساس يدرك من خلاله بأن الصين وقد باتت مصنع العالم لا بد من كسرها وكسر طموحاتها كأكبر قوة اقتصادية تعمل لها أمريكا ألف حساب، مما يبيح لها ولغيرها من عتاولة أسواق رأسمالية بإعادة تموضع التنقلات الكونية للاستثمارات الكونية الرأسمالية بما يخدم مصالحها أولا، وبما يشتم معه بأن الأوان قد آن لمحاسبة ومعاقبة وإيقاف دور ومكانة التنين الصيني كقوة اقتصادية يعمل لها ألف حساب، خاصة بعد أن باتت حليفا لروسيا بوتين ومعاونا لإيران، ووجد هذا الترامب المتعطش لإعادة انتخابه ثانية المجال متاحا كي يمارس بهلوانياته اليمينية المفرطة التطرف، ووجد نفسه في معركة يجند لها كافة أسلحته لمواجهة كل من الصين وروسيا تماما، كما وجد غايته وهو يأمر ويصطف كذبا مع غيره من اللاعبين الصغار بأسواق النفط كي يدخلوا اللعبة، لعبة تخفيض سعر برميل النفط، ضربا لبوتين أولا، ودمارا للصين على نفس الطريق، ضاربا، كما يقال، أكثر من عصفور بحجر واحدة ومن خلال ثقبين جهنمين:

الأول: ثقب الكورونا المدمر الذي بدأ يتنمر والكل عليه يتفرج ويضحك، وسيظل هذا الخطر الداهم، ولنقل هذا الخطر الماحق أخطر ما تمر به البشرية، وسيظل كبار العالم ومدمروه متهمين بأنهم ضالعون فيه ومتسببون به بطريقة أو بأخرى، حتى تثبت براءتهم، والعالم ينتظر مَن سيحمل معول هزيمة هذا الخطر الماحق.

الثقب الثاني: هذا الجنان الماحق حول أسعار النفط وحول فلكلور ما بات يعرف بمصطلح أوبك ليس صحيحا، فإن تخفيض أسعار النفط في أوضاع طبيعة يكون في صالح اقتصادات النمو وفي صالح أسعار المستهلك وكبح جماح التضخم، لكن في ظل لعبة سياسية يقودها ترامب والاحتياطي الفيدرالي وتلاعبات أسعار الأسهم وضربها هنا وهناك فالأمر أخطر مما يتصوره مرهقو رأسمالية يريدون من خلال مخالبها فقط ابتزاز ما تبقى من قرارات سيادية لا بد أن تتملك زمامها أمم وشعوب من أقاصي الصين إلى روسيا بوتين إلى دول النفط التي تقاد كي تحمي صناعة النفط الصخري الأمريكية ولو على حساب شعوب ودول كثيرة جدا، أولها وأساسها شعوبنا العربية.

ما أحوج العالم إلى نظام عالمي جديد حقا لا تتفرد بابتزازه قوة واحدة بعينها على رأسها رئيس أحمق، وما أحوج العرب في هذه اللحظة بالذات لإعادة ترتيب شؤونهم وتبدأ ساعة الوقفة الجادة للتضامن العربي الحقيقي عبر إيقاف مسلسل الحروب بدءا ببلادنا ومرورا بسوريا والعراق وليبيا، ودعم القضية الفلسطينية، والتفرغ لمتطلبات عملية تنموية حقيقية للبلاد العربية.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى