حكايات "ألف ليلة وليلة" تتمازج في ثقافات الأمم والشعوب (2 - 1)

> محمد عبدالرحمن يونس

> لحكايات "ألف ليلة وليلة" هذا العمل الأدبي العملاق الذي تمتزج فيه الخرافة بالأسطورة والأحلام بالواقع، أثر كبير في مختلف الأجناس الأدبية، سواءً أكانت شعراً أم قصة أم رواية أم مسرحاً. ولم يقتصر تأثير هذا العمل الكبير على الأدب العربي فحسب، بل كان ذا تأثير شديد في مختلف آداب الشعوب والحضارات المعاصرة.
بدا اهتمام الغرب الأوروبي بحكايات "ألف ليلة وليلة" واضحاً في الأدب والرسم والنحت والموسيقى، وذلك منذ أن ترجمها إلى الفرنسية أولاً أنطوان جالان ترجمة حرّة من العام 1704م حتى العام 1717م، ومن ثم تُرجمت إلى اللغات الأوروبية ترجمات عديدة، بعدما أثار فضول أدباء وكتّاب كثر وعلى رأسهم المستشرقون، الذين وجدوا في عالم هذه القصص صورةً ملائمةً للشرق بخليط ثقافاته الكثيرة التي نتجت عن تمدد الفتح الإسلامي شرقاً نحو بلاد فارس والهند، وغرباً في كل اتجاه.

اهتمام العالم
إنّ لـ "ألف ليلة وليلة" تأثيراً بعيد المدى في آداب الأمم والشعوب وفنونها العديدة، وخاصة في الآداب العربية والهندية والفارسية التي تتداخل في ثقافاتها وفنونها. حتى تنازعت هذه الثقافات الثلاث نسب هذا الكتاب. ولكن تأثيره تعدى هذه الثقافات المتجاورة، لينتقل إلى معظم أنحاء العالم، كما لو أنه يحمل سحره فوق بساط الريح لخلق عوالم الأحلام والأسطورة لدى سائر الشعوب.

تُرجم كتاب "ألف ليلة وليلة" إلى معظم لغات العالم، وتأثّر به كبار رجال الفكر والأدب، واستلهموا منه أجمل ما كتبوه من نصوص إبداعية. ففي فرنسا وحدها على سبيل المثال، أكّد فولتير على أهمية كتاب ألف ليلة وليلة، حين قال: "لم أصبح قاصاً إلا بعد أن قرأت (ألف ليلة وليلة) أربع عشرة مرة". أما الناقد والروائي الفرنسي ستندال فقد أعجب به إعجاباً شديداً وتمنى أن يصاب بفقدان الذاكرة حتى يعيد قراءة حكايات ألف ليلة وليلة، ويستمتع بها كما استمتع بها في أول قراءة. ويؤكد أناتول فرانس، أنّه تتلمذ على حكايات "ألف ليلة وليلة" قبل أن يكون أديباً.

نفاذ إلى الحياة الاجتماعية
تقول الناقدة الألمانية أردموتة هللر، عن ألف ليلة وليلة إنها "أسهمت في خلق الصور الرومانسية الخيالية عن الشرق، إذ حملته معها ونقلته إلى الغرب. وتسنّى للغرب من خلال حكايات شهرزاد اكتشاف الشرق. ولا يوجد مؤلَف شرقي أثّر تأثيراً في الأدب الأوروبي مثل تلك الحكايات الرائعة والجذابة. فبين ليلة وضحاها أصبح هذا الكتاب جزءاً لا يتجزأ من الأدب العالمي تماماً مثل إلياذة هوميروس، وآينيز، وفرجيل، وديكاميرون، وبوكاتشيو".

فكل من قرأ حكايات ألف ليلة وليلة، وأياً كان عمره، يشعر وكأنه مسافر بين عوالم الخيال والواقع. فهذه القصص جُمعت على أنها حكايات كان تحكيها "شهرزاد" زوجة الملك "شهريار" كي تؤجل موعد قتلها. فكانت تؤخر خاتمة كل حكاية لليلة التالية كي تثير شوق شهريار إلى معرفة هذه الخاتمة. أي أن الحكايات كانت عوناً لها وملاذاً لشهريار الخيّر من شهريار الشرير. فيقول الباحث والناقد الإنجليزي كولريدج: "إنّ قصص شهرزاد شبيهة بالأحلام، إذ إنها لا تبعدنا عن الواقع ولكنها تعطينا صورة مغايرة له، تلك الصورة التي لا يدركها العقل".

أما الباحث والناقد جون جو لميير، فيقول "إنّ شخصية شهرزاد قد أثّرت تأثيراً حاسماً في تاريخ المرأة الأوروبية، وجعلت القرن الثامن عشر أعظم القرون في حياتها. إذ كان لجمالها وثقتها بنفسها، وتصديها وحدها لشهريار الذي عجز كل الرجال عن إيقافه، واستخدامها لسلاح الأنوثة والمعرفة معاً، كان لهذا كله أثر كبير في تكوين شخصية المرأة الأوروبية".

في الآداب وأنواعها
أثرت ألف ليلة وليلة، في جميع الأجناس الأدبية الأجنبية وفي الفنون أيضاً. وقد كان تأثيرها واضحاً في الكتابات القصصية التي ظهرت في فرنسا وإنجلترا وإيطاليا خلال القرن الثامن عشر، وتلك التي ظهرت في أمريكا خلال القرن التاسع عشر. ومن النصوص الأجنبية التي تأثرت بهذه الحكايات نذكر "فاثيك" للكاتب بكفورد التي صدرت في العام 1786م، ورواية "لا لا روخ"، لتوم مور في العام 1817م، وقصائد اللورد بايرون المطوّلة، ومنها "رحلة الفارس هارولد"، ومجموعة قصائده الموسومة بـ "حكايات تركية". ونشر توماس هوب في عام 1819م رواية بعنوان "أناستازيس: مذكرات يوناني"، وفيها استقى عوالم ألف ليلة وليلة السحريّة والغرائبيّة. وكتب جيمس جوستنين موريي رواية بعنوان: "مغامرات حاجي بابا"، ذكر في مقدمة طويلة لها علاقة روايته بحكايات ألف ليلة وليلة، ثم عاد ونسج من عوالم ألف ليلة وليلة عدة روايات أخرى وهي "الرهين زهراب" في عام 1832م، و"عائشة" في عام 1834م، "ميرزا"، و"مسلمة: قصة فارسية" في 1847.

وتأثّر الأديب والفيلسوف مونتسكيو في كتابه "الرسائل الفارسية" بحكايات ألف ليلة وليلة في تصويره للولائم ولعادات الشرق. أمّا فولتير فقد كان من أكثر الأدباء الذين تأثروا بهذه الحكايات، ويظهر هذا التأثير واضحاً في رواياته "صادق" و"سميراميس" و"أميرة بابل"، وقصة "العالم كيفما يسير".
وقد حاول أنطوني هاملتون في روايتيه "حكاية الحمل" و"قصة زهرة الشوك"، أن يقلّد شخوص ألف ليلة وليلة في مغامراتهم، وعلاقاتهم بالجان. أمّا اللورد وليم بيكفورد، فقد أبدى إعجاباً شديداً بهذه الحكايات، وكتب قصّة "الخليفة الواثق بالله" في عام 1782، مستوحياً أحداثها وعلاقات قصورها من أحداث حكايات ألف ليلة وليلة وفضاءاتها المكانية. أما الفرنسي تيوفيل غوتييه، فقد كان عاشقاً لمدينة القاهرة التي تعدّ من أهم مدن ألف ليلة وليلة، وقد وصف شوارعها وأسواقها المزدحمة، وحوانيتها التجاريّة العامرة بجميع أنواع البضائع. ومن خلال عشقه لهذه المدينة الجميلة التي قرأ عنها كثيراً، وسمع أخبارها العجيبة من أصدقائه الرحالة، ثمّ زارها فيما بعد، كتب عنها في رواياته المملوءة بزخارف ألف ليلة وليلة وصورها، وهي "وجبة في صحراء مصر" في عام 1831م، و"ليلة من ليالي كليوباترا"، و"قدم المومياء" و"رواية المومياء".

أمّا قصة روبنسون كروزو، ورحلات كاليفرز الإنجليزية الشهيرتان، فهما مأخوذتان في بنية أحداثها وخيالاتها من بنية حكايات السندباد البحري ورحلاته السبع صوب جزر العالم البعيدة ومرافئه.
ويقول المستشرق الصيني د. شريف شي سي تونغ، إن بعضاً من حكايات ألف ليلة وليلة يدرس في المدارس الابتدائية والثانوية الصينية، بالإضافة إلى الجامعات، وخاصة في كليات الآداب والتاريخ والعلوم الإنسانية في الصين. وقد تولى هو شخصياً تدريس حكايات السندباد البحري وأسفاره لطلاب شعبة الماجستير بجامعة الدراسات الأجنبية في بكين، حيث يبدي الطلاب إعجاباً شديداً بهذه الحكايات.

ولم يقتصر تأثير ألف ليلة وليلة على القصة والرواية فحسب، بل تعداه إلى أنواع الفنون كافة. ففي المسرح نجد أن المسرحيتين الأوروبيتين "علاء الدين"، و"حلاق إشبيلية" تتناصان بشكل واضح وكبير مع حكايتين من حكايات ألف ليلة وليلة وهما "مزين بغداد" و"علاء الدين والمصباح السحري". أمّا المسرحي الإسباني لوبي دي فيجا، فقد كتب مسرحية تبدو كأنها نسخة عن حكاية "تودد الجارية إلى الخليفة هارون الرشيد"، سمَّاها "الجارية تيودور".

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى