الشرق الأوسط الجديد: انكفاء عربي وأميركي وتقدم الآخرين

> هشام ملحم

> كيف يخدم تناحر العرب إيران وتركيا؟
تهور الأمير الشاب في حرب اليمن أعطى إيران موقعا عسكريا في شبه الجزيرة

تؤكد معظم التطورات السياسية والميدانية في الشرق الأوسط في العقدين الأولين من القرن الحادي والعشرين مثل الغزو الأميركي للعراق، وانهيار مفاوضات السلام بين العرب وإسرائيل، وإخفاق معظم الانتفاضات العربية، باستثناء تونس، في إسقاط الأنظمة السلطوية، تؤكد حقيقة وجود انكفاء عربي وأميركي على مستوى المنطقة بكاملها، يقابله صعود إقليمي واضح للنفوذ التركي والإيراني والإسرائيلي كما يتبين من الدور المتعاظم لهذه الدول في نزاعات سوريا والعراق وليبيا واليمن.

وصاحب ذلك تصاعد للنفوذ الروسي منذ التدخل العسكري في سوريا في 2015، ولاحقا في ليبيا. قادة المنطقة يزورون موسكو أكثر مما يزورون واشنطن. روسيا هي في خضم الخيارات العسكرية والحلول الديبلوماسية المقترحة في سوريا وليبيا في السنوات الماضية. الولايات المتحدة في أفضل الحالات هي لاعب له دور محدود وأحيانا تتصرف واشنطن وكأنها مراقب لما يجري في منطقة كانت قبل عقود هي اللاعب الأساسي فيها.

حتى الحشود العسكرية التي أرسلتها إدارة الرئيس دونالد ترامب إلى منطقة الخليج في الأشهر الأخيرة لردع الاعتداءات الإيرانية المباشرة وغير المباشرة ضد المصالح الاقتصادية لأصدقائها في الخليج هي حشود مؤقتة، لأن الرئيس ترامب أكد في أكثر من مناسبة أنه يريد سحب معظم، إن لم نقل جميع، القوات الأميركية من جنوب آسيا (أفغانستان تحديدا) والشرق الأوسط، وفي ذلك العراق وسوريا، لتفادي الأعباء المالية الضخمة لهذا الانتشار العسكري الأميركي الذي لم يخدم المصالح الأميركية في المدى البعيد كما يرى ترامب.

الجنوح للتسلط والقمع
هذه التطورات تزامنت مع بروز نزعات وممارسات سلطوية نافرة حتى في الدول التي تحكمها أصلا أنظمة أوتوقراطية، ووصلت هذه النزعات والممارسات التسلطية والشوفينية حتى إلى الدول التي فيها مؤسسات وممارسات ديمقراطية مثل تركيا وإسرائيل. خلال السنوات الماضية وضع رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو إسرائيل على طريق أوتوقراطي شوفيني على حساب حقوق المواطنين الإسرائيليين العرب، على خلفية حملة شنها مع اليمين المتطرف والديني ضد التيارات الليبرالية والصحافة.

في تركيا، فرّغ الرئيس رجب طيب أردوغان المؤسسات التركية من مضمونها الديمقراطي المحدود، وشنّ حملة ترهيب ضد منتقديه في الصحافة والمجتمع المدني، وغالى في انتهاكاته للحقوق المدنية والسياسية لأولئك الذين تجرأوا على انتقاده وخاصة في أعقاب المحاولة الانقلابية الفاشلة في 2016.

في مصر، تحول نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي، الذي وصل إلى السلطة في انقلاب عسكري، إلى أسوأ نظام يحكم مصر منذ الإطاحة بالنظام الملكي في 1952. خلال السنوات الأخيرة للرئيس حسني مبارك، ومنذ الإطاحة به ومصر مشغولة بمشاكلها الداخلية: التصدي للتحدي العسكري والإرهابي للجماعات الإسلامية المتطرفة في شبه جزيرة سيناء، وقمع الأصوات المنادية بإصلاح سياسي في الداخل المصري.

هذه السلطوية الداخلية في مصر مشت يدا بيد مع الانحسار السريع لنفوذ مصر الإقليمي. مصر اليوم عاجزة عن تحرير سيناء، أو التأثير بشكل فعال على قطاع غزة، أو التأثير بالعمق على التطورات الليبية، كما لا تعرف القاهرة حتى الآن كيف ستتعامل مع التحدي الكبير الذي يمثله لها سد النهضة في أثيوبيا اقتصاديا وحتى وجوديا.

في السعودية أوصل ولي العهد الجديد محمد بن سلمان انتهاكات حقوق الإنسان إلى مستويات غير معهودة، بما في ذلك السجن الاعتباطي لناشطات في مجال حقوق الإنسان وتعذيبهن، واعتقال أفراد من العائلة المالكة وعدد من كبار رجال الأعمال وإرغامهم باسم مكافحة الفساد ـ على دفع مبالغ كبيرة للخزينة التي يسيطر عليها، وهو الذي اشترى يختا بقيمة نصف مليار دولار وقصرا فخما في فرنسا ثمنه 300 مليون دولار.

تهور ولي العهد الشاب دفعه لتوريط بلاده في أبشع وأخطر حرب منذ تأسيسها حين اعتقد ساذجا أن شنّ حرب جوية عشوائية ضد أعدائه الحوثيين في اليمن سيحقق أهدافه. الحوثيون الذين سلحتهم إيران لاستنزاف السعودية ودولة الإمارات، أصبحوا أكثر اعتمادا على إيران في السنوات الماضية، وأظهروا احتقارا لحقوق المدنيين مماثلا لاحتقار السعوديين.

الغزو الأميركي للعراق الذي أراده جورج بوش الابن أن يخلق دولة تمثيلية ومدنية تحترم الحقوق الأساسية لمواطنيها، أصبح أكثر من أي وقت مضى خاضعا للمحاصصة الطائفية والإثنية والمذهبية، حيث تهيمن عليه ميليشيات بعضها يدين بالولاء السافر لإيران، وطبقة سياسية دينية فاسدة ومتسلطة.

في سوريا، تحول نظام بشار الأسد المتسلط والفاسد أصلا إلى طغيان مطلق حين لجأ النظام إلى القتل الجماعي للسوريين لوقف الانتفاضة الشعبية. نجحت الانتفاضتان الشعبيتان في السودان والجزائر بالإطاحة برأسي نظامين متسلطين وفاسدين، ولكن التخلص من البنى التحتية الفاسدة والمتسلطة للنظامين هي مسألة أخرى. هذه بعض الأمثلة عن جنوح بعض الدول العربية للتسلط والطغيان.

من سوريا
مأساة سوريا، أظهرت بشكل سافر ومخجل انهيار النفوذ العربي والأميركي في وجه النفوذ الروسي والإيراني والتركي والإسرائيلي. الرئيس السابق باراك أوباما أخفق في تنفيذ تهديده بالتدخل إذا اجتاز نظام الأسد الخطوط الحمر التي رسمها أوباما وأهمها استخدام السلاح الكيماوي. الرئيس ترامب كاد يسحب جميع القوات من سوريا، مما أدى إلى استقالة وزير دفاعه السابق جيمس ماتيس. الوجود الأميركي العسكري لم يمنع تركيا من اجتياح شمال سوريا لفرض إرادتها ولضرب القُوَى الكردية.

بقاء الأسد في السلطة يعود للتدخل العسكري الروسي والإيراني المباشر أو بواسطة الميليشيات الشيعية التي تخدم إرادة ولاية الفقيه في طهران. إسرائيل تملك الأجواء السورية، ربما بغمزة من روسيا تظهر العَلاقة القوية بين نتنياهو وفلاديمير بوتين. في هذا المشهد السوري الفاجع، لا يوجد هناك لاعب عربي واحد فاعل مثل مصر أو السعودية.

إلى ليبيا
تشهد ليبيا منذ سنوات حربا أهلية تحولت أيضا إلى حرب بالوكالة. هناك جبهة الحكومة المعترف بها دوليا، التي يبقيها على قيد الحياة التدخل العسكري التركي، المدعوم ماليا وسياسيا من قطر، فقد قام البَلدان بتنظيم مرتزقة من المقاتلين السوريين لاستخدامهم كوقود بشري في مدافعهم.
وفي الجبهة المقابلة هناك ائتلاف من روسيا ومصر ودولة الإمارات العربية المتحدة يدعم ما يسمى بالجيش الوطني الليبي الذي يرأسه الجنرال خليفة حفتر الذي قضى سنوات طويلة في المنفى في الولايات المتحدة خلال حكم معمر القذافي.

روسيا تنشط عسكريا في ليبيا عبر مرتزقتها المعروفين بقوات "فاغنر" نسبة إلى الموسيقار الألماني الكبير ريتشارد فاغنر، لأن الأوليغارشي الروسي الذي أسس هذه المجموعة من المرتزقة التي نشطت في سوريا أيضا، يحب موسيقى فاغنر.
الدور العربي في ليبيا لا يرقى إلى مستوى الدور التركي أو الروسي، والدور العربي في ليبيا هو حرب بالوكالة بين مصر ودولة الإمارات العربية من جهة على قطر المدعومة من تركيا. أيضا في هذا المشهد الليبي الحضور الأميركي شبه معدوم، على الرغم من مركزية الدور الأميركي وحلف الأطلسي في إسقاط نظام القذافي.

واليمن
الحرب في اليمن سرعان ما تحولت إلى حرب بالوكالة بين إيران من جهة، والسعودية ودولة الإمارات المتحدة من جهة أخرى. في بداية القتال لعبت القوات الإماراتية البرية دورا رئيسا، ولكن هذا الدور انحسر في السنة الماضية. الحرب، وخاصة القصف الجوي السعودي، أدت إلى قتل آلاف المدنيين، من بينهم عدد كبير من الأطفال. ويبدو أن مستشاري الأمير الشاب غير الملم بالتاريخ لم يطلعوه على تجربة مصر العسكرية الكارثية في اليمن أو تجارب دول أخرى حاولت وفشلت في فرض سيطرتها على اليمن وخاصة في المناطق البعيدة عن السواحل.

تناحر عربي
في السنوات الماضية كتب المعلقون عن النفوذ الإيراني المتنامي في أربع دول ذات أكثرية عربية هي العراق وسوريا ولبنان، مما يعني عمليا إعطاء إيران منفذا على البحر المتوسط للمرة الأولى منذ الحروب الإغريقية ـ الفارسية التي انتهت في سنة 479 قبل الميلاد.

ومنذ بداية حرب اليمن، أصبح لإيران موقعا عسكريا في شبه الجزيرة العربية. في المقابل، أعادت قطر القوات التركية إلى مياه الخليج للمرة الأولى منذ انهيار الإمبراطورية العثمانية قبل أكثر من قرن. وازداد عديد القوات التركية في قطر في أعقاب احتدام النزاع المفتوح بين السعودية ودولة الإمارات والبحرين ومصر ضد قطر. هذا النزاع كان المسمار الأخير في نعش مجلس التعاون الخليجي الذي لا يمكن تصور إنقاذه بوجود الحكام الحاليين لدُوَله.

وهكذا ساهمت النزاعات بين الدول العربية من الخليج إلى ليبيا وقبلها في سوريا والعراق في تعزيز دور الدول الإقليمية الثلاث غير العربية: إيران وتركيا وإسرائيل.

اللافت في هذا السياق، أن مخاوف الدول العربية في الخليج وتحديدا السعودية ودولة الإمارات من الطموحات الإيرانية والسلوك الإيراني الاستفزازي في دول مثل العراق واليمن وسوريا، دفع بهذه الدول إلى تعزيز علاقاتها مع إسرائيل في المجالات الأمنية والاستخبارية، ويرى قادة خليجيون أن إسرائيل التي تعاديها إيران هي حليف طبيعي في المواجهة مع إيران. هذه العَلاقة الحميمية الجديدة بين بعض دول الخليج العربية وإسرائيل أدت إلى انحسار التأييد الخليجي التقليدي للفلسطينيين في السنوات الماضية. إسرائيل أصبحت اليوم دولة لها دور مباشر وغير مباشر في شؤون الخليج، وهو أمر لم يكن من الممكن تخيله قبل سنوات.

هل يستمر الانكفاء الأميركي؟
استمرار أو تغير هذه الأنماط السلبية للدول العربية على العموم مرتبط، ولكن بشكل جزئي، بمن سينتخب الأميركيون رئيسا لهم في نوفمبر المقبل. إذا أعيد انتخاب دونالد ترامب لولاية ثانية، يمكن توقع استمرار هذه الأنماط لا بل تفاقمها، إذا قرر ترامب سحب جميع القوات الأميركية من العراق وسوريا وتخفيض عديدها حتى في دول الخليج.

ولكن في حال انتخاب جوزف بايدن رئيسا، يمكن أن نتكهن بأنه سيتخذ مواقف متشددة أكثر تجاه التدخل الروسي في سوريا وليبيا، ولكن دون زج الولايات المتحدة مباشرة في هذه النزاعات.

ونظرا لوجود عدد هام من المشرعين الديمقراطيين في الكونغرس، وخاصة في مجلس الشيوخ من الذين انتقدوا السعودية بعد اغتيال الصحفي جمال خاشقجي والذين دعوا إلى تعليق الإمدادات العسكرية للسعودية بسبب حربها في اليمن، يمكن أن نتوقع من بايدن موقفا سلبيا من السعودية يشمل انتقاد انتهاكات حقوق الإنسان في المملكة.

وعلى الرغم من تأييد بايدن التقليدي لإسرائيل، إلا أنه لن يستطيع تجاهل شريحة هامة داخل الحزب الديمقراطي، وخاصة مؤيدي المرشح السابق بيرني ساندرز (الذي يصف نتنياهو بالعنصري) وسوف يضطر إلى انتقاد إجراءات إسرائيل المتشددة ضد الفلسطينيين.

ولكن الدولة التي سيراقب الجميع كيف سيتعامل معها بايدن في حال انتخابه هي إيران. هل يحيي الاتفاق جزئيا أم كليا، أم سيبدأ بمفاوضات جديدة؟ من الصعب تخيل استمراره بالعمل بالعقوبات التي أعاد ترامب فرضها في 2018. ولكن هل يربط بايدن هذه المرة (كما لم يفعل أوباما) أي اتفاق أو تفاهم جديد مع إيران بتغييرات ملموسة في سلوك إيران في العراق وسوريا ولبنان واليمن؟

الأسئلة كثيرة، لكن الرئيس الأميركي، إن كان ترامب أم بايدن لن ينقذ الدول العربية من مأزقها الراهن، أي العيش في ظل جيرانها الأقوى منها. هذه الدول العربية هي المسؤولة عن تناحرها وخلافاتها وابتعادها عن الحوكمة الرشيدة وخلق المؤسسات التمثيلية الحقيقية، واحترام حقوق الإنسان، وهي العوامل الضرورية لاستعادة سياداتها المسلوبة والبدء بتقرير مصيرها بحرية والدفاع عن مصالحها الشرعية والاعتماد على نفسها وقبول مفاهيم المساءلة وقيم الحوكمة الرشيدة وشرعيتها التي لا يمكن أن يعطيها إياهم إلا شعوبهم الحرة.

*قناة الحرة الأمريكية

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى