أبوبكر السقاف

> لأبي بكر عبدالرحمن بن علوي السقاف مستوعب من الزمان يجعله شاهد عيان على تبدلات الفعل الإنساني فيه، بخيره وشره، صعوده وهبوطه، وحتى الشيء ونقيضه كنقيصة آدمية مدغومة في البحث عن الجديد حتى في الخطيئة نفسها، ربما اتساقاً مع قول المتنبئ: (أبوكم آدم سَنّ المعاصي).
هو زمن لو أحصى أبوبكر وقائعه لكان له في كل واقعة ذكر يذكر، مذ وعى تفكيك الحرف وإعادة صياغته على نسقه هو وطريقته بما لم يسبقه إليها أو يلحقه بعدها أحد.

أما جغرافيته فإنها تبسيط بليغ ومكثف لـ "كنه" أبي بكر المترع إنسانية، تتساوى الأمكنة: الوهط وأديس أبابا، الحوطة وموسكو، القاهرة وصنعاء، عدن وتعز.. كلها مناشئ تكوين أياً كان الكائن فيها، شكله وعرقه، لونه ومعتقده، فالإنسان أينما وجد لا أينما ولد، ويظل: إن المدن تنتصب فوق أعمدة روحية كالمرايا العملاقة، وهي تعكس قلوب سكانها، فإذا أظلمت هذه القلوب، وفقدت إيمانها، فإنها ستفقد بريقها وبهاءها. (شمس التبريزي).

كان لـ (الوهط) شغف آخر ولوحات جدارية مشبعة بـ (ميثولوجيا) حية، يعيد أبوبكر محاكاتها كلما سنحت السوانح بعد نصف قرن وكأنها مثول شامخ للشخوص والزوايا والأركان.
كان صوت الأذان رياناً في قرية عُرفت بمساجدها العامرة وبحلقات الذكر والطقوس الصوفية، وكانت السيول المتدفقة صلة المرء بالعيش، فإن أغلقت المنافذ فتح باب إلى "جمة" و "هواش" و "أديس أبابا" في بلاد الحبشة.

في هذه الدار - يقول أبوبكر - كان جدّك محمد يجهر بالتسليمتين عندما دخلت عليه (كان قد عاد يافعاً من الحبشة) فانتفض الشيخ الكبير مبهوتاً فقد اختلط عليه الشبه بقريب آخر لأبي بكر كان قد فارق الحياة.

وفي دكانة (عوض عباد) يتذكر أبوبكر أقرانه وقد جعلوا من المكان منتدىًّ لحواراتهم السياسية، شباب غاضبون بطبيعة المعرفة التي نهلوها من المدرسة الجعفرية والمحسنية ومن إشراقات عدن غير البعيدة أبداً عن الوهط، تلفح تجلياتها الصاعدة عواطفهم الجياشة، فلا تجد في قاموسهم المشترك ما هو قائم على الطاعة العمياء أو بوس اليد (وش وقفى) كما يقول المصريون.

أما عوض عباد نفسه وهو يبيع حلواه الوهطية الشهيرة وقتذاك، فقد أضاف إلى معرفته توابل مما يعلق في ذهنه من نقاشاتهم عن الحرية والاستعمار والسلاطين.

يتذكرهم الآن أبوبكر بعد نصف قرن ويزيد وكأنه متكئ على وسادة من نشارة الخشب في ركن الدكان القصي، ينظر اليهم ويعددهم بأسمائهم: علي حيدرة عوض، الشهيد عبده حيدرة، عمر الجاوي، عمر سالم طرموم، أحمد سالم عبيد، علي عوض، عبدالرحمن البصري، أحمد سالم بكير، علي عبده همام، علي عيدروس عمر، محمد فضل مطر، عيدروس علي عبدالرحمن، حسن علي حسن وفضل باعوين...إلخ.

تعود به الذاكرة إلى بيت عمته الطيني حيث احتفظ بمجموعته القصصية لديها والتي لم ترَ النور، ذهبت العمة وذهبت المجموعة معها.
تذكرت أنا، بواكير "لينين" الأدبية، لم تكن السياسة وفكرها قد تسرب إلى عقله، بينما "الثورية" كعقيدة ذات أنياب قد تملكت عقل أخيه الأكبر "اليكسندر" الناقم على القيصر فتدلى مع رفاقه على أعواد المشانق فكانت هذه نقطة "الإفاضة" في كأس لينين فرحل مفارقاً الأدب إلى السياسة والثورة.

هذا ليس من شأن أبي بكر السقاف الذي رحلت مجموعته القصصية اليتيمة ولم يرحل عنه الأدب أو يرحل هو عنه،
فكل كتاباته نزوع فطري نحو الأدب، وبإمكان المرء أن يجد حدائق متنوعة من الأدب الرصين في كل ما كتبه أبوبكر في الفلسفة والفكر والسياسة والتاريخ وعلم الجمال وفي مقالاته الصحفية.

وأجزم، وأنا عائد إلى نشأته مرة أخرى، أن للحبشة مسرىًّ آخر في تطبيع الشخصية المتكاملة والمعقدة لأبي بكر. تضيف الجغرافيا - وهي ناطقة بلسان التاريخ - ما لا يضيفه التاريخ على الإنسان أحياناً.
لقد اقتنصه درب سار عليه آباء وأجداد كثر سلكوا مسلكهم نحو الحبشة من الوهط، فتمدد في الجوانح حبل سري من الود الذي لا ينقطع والسحر الذي لا تنتهي حكاياته في سماء الوهط النائمة على ضفاف الوادي الكبير تبن؛ عن بلاد النجاشي ونهر هواش والغابات والخير والجمال والفتيات السمر.

إنها ولا شك ثنائية أفرو - وهطية تدمغ جيلا بأكمله بهذا التكامل والتكافؤ الوجداني الذي يسري يعبوبه في الثنايا حتى اليوم.
من مجاهل إمبراطورية السحل يرسل المحلتي الكبير بيتين من الشعر إلى وهطه وهو يحتضر طالباً من سادتها رعاية نجليه علي ومهدي اللذين أصبحا ناراً على علم في دنيا الشعر الشعبي:

علي ومهدي أمانة الساده

لا عاد باشوف راتب ولا حضره

بيني وبين الروضة جبل عالي

وبحر مالي يا ريت لي نظره

لم تكن القاهرة المعزية أو كما يحب أبوبكر أن يسميها "قاهرة الشعب المصري" مدينة مجردة ورحلة عابرة في خاطره ينهل من مدارسها ما ينهل ويودعها عائدًا من حيث أتى.
كانت قاهرة الخمسينيات تموجات فكرية وسياسية تفيض عن الحاجات، خذ منها ما شئت وستجد فيها ما شئت، فهي زيادة دائبة وفرة وخصوبة وتنوع.

وجد أبوبكر ضالته في أعلى النيل كما تحسس ذاته المبكرة عند ينابيعه في هضبة الحبشة.
أما تشكل الوعي فقد تكون عدن صاحبة الأثر فيه، بـ(ليبرالية) ما بعد الحرب الكونية الأخيرة، بالتيارات الثقافية والتنظيمات السياسية ونشوء الحركة العمالية والأهم الصحافة العدنية، اكتمل نهجه الفكري والسياسي قبل أن يدخل مصر آمناً.

اختار صف اليسار ممثلاً في حزب (حدتو) الاشتراكي، لكن أبابكر أكبر من أن يضع ذواته الكبيرة في الفكر داخل قوالب حزب بعينه، ربما كان باحثاً في الاشتراكية واليسار المصري عن العدالة الاجتماعية المطلقة وهو قطعاً ما لا يوجد حتى في بلد المنشأ التي سينتقل إليها أبوبكر لاحقاً.

إن حراك أبي بكر السياسي بين زملائه الطلاب اليمنيين مشفوع دائماً بفكره العميق في السياسة وأبعادها، وهو لهذا أقرب إلى فلسفة السياسة وإلى المفكر منه إلى السياسي الاعتيادي، ما جعله محط احترام زملائه في رابطة الطلبة اليمنيين التي تأسست في العام 1956، وحضر مؤتمرها الأول مندوب عن الرئيس جمال عبدالناصر، كما حضر أعمال المؤتمر الرئيس ياسر عرفات وصلاح خلف.

كان أبوبكر واحدا من صناع الرابطة إلى جانب عمر الجادي وأحمد الشجني وخالد فضل منصور وسعيد الشيباني وسليمان حسن وطاهر رجب وعبده عثمان ومحمد عبدالغني علي وعبدالله العالم وعبدالله شهاب وعبدالله صالح عبده وعبدالله عبدالوهاب جباري ومحمد عبدالله العصار وعبدالقوي العبسي ومحمد أحمد عبدالولي ومحمد عبدالله باسلامة وعبدالكريم الإرياني وصادق إبراهيم ومحمد عمر حسن إسكندر الذي انتخب رئيساً للرابطة.

في العام 1959م تم سجن وترحيل أبي بكر السقاف من مصر، ومعه عمر الجاوي ومحمد عبدالله باسلامة ومحمد جعفر زين، عن طريق البحر إلى ميناء الحديدة قبل أن يسافر إلى موسكو لمواصلة دراسته.
ويسرد علينا عمر الجاوي الذي كان رفيقه مع آخرين إلى موسكو اتفاقه مع أبي بكر بطلب من الأخير بأن تبقى غرفته مصانة من الزيارات واللقاءات التي يعقدها عمر عادة في غرفته المجاورة لغرفة أبي بكر ماعدا أيام العطل الأسبوعية والإجازات، ليتفرغ السقاف لمشروعه التعليمي والعلمي متعدد التخصصات في العلوم الإنسانية

كانت له إسهامات علمية في قسم الدراسات الإسلامية بجامعة موسكو إلى جانب دراسته التاريخ والفلسفة وعلم الجمال واطلاعه بعمق على الأدب الروسي والنقد.

وفي مطلع السبعينيات من القرن الماضي استقر في صنعاء استاذاً في جامعتها، ونشر أبحاثه ودراساته المتسمة بالجدية والاجتهاد وعمق الرؤية، محتفياً بالمنهج العلمي فقدم رؤيته العلمية للفكر والحضارة الإسلامية والإنسانية والتاريخ، واليمني منه على وجه الدقة، مستفيداً من عميق معرفته بالفلسفة ومعتمداً على منهجه العلمي في الدراسة والتحقيق، كما أصدر كتابين في الدراسات الإنسانية والنقد والفكر، وكتابا آخر تناول الحقيقة التاريخية للنظم الاستبدادية في اليمن وهيمنتها القسرية على المناطق الأخرى جنوب ذمار وله عديد الدراسات والبحوث والأعمال الفكرية لم يشأ تقديمها للطباعة، وهي مشروع علمي مؤجل حتى حين.

شاءت الصدف أن تندلع حرب عام 1994م العدوانية وهو في الأردن، فقام بدور نشط بين المثقفين والمفكرين والأدباء الأردنيين، فضح فيه حرب العدوان تلك وخرج بوثيقة إدانة وقع عليها أكثر من مائتي شخص من النخبة الأردنية. يقول أبوبكر: حضر إلى الفندق حيث أقيم شاب من المراسيم الملكية ناقلاً إليّ رسالة من الملك: الإقامة في الأردن على الرحب والسعة دون سياسة أو المغادرة، فغادرت.

عند عودته إلى صنعاء والحرب بالكاد وضعت أوزارها كتب سلسلة مقالاته الجريئة جداً: (فتح الجنوب والاستعمار الداخلي) في صحيفة "الأيام" الغراء، نشرت تباعاً في الصحيفة بالإضافة إلى سيل من المقالات التي تفضح نظام علي عبدالله صالح وقبضته الأمنية في الجنوب، مما عرض الصحيفة لمحاكمات لم تنقطع وتعرض المفكر الكبير وآخر الفلاسفة العظام مذ ابن رشد (أبوبكر السقاف) لاعتداء آثم استخدم فيه رجال استخبارات صالح العصي الكهربائية مما أفقده إحدى عينيه ورمي في منطقة نائية في "بيت بوس"!! ورغم ذلك لم يثنه ما تعرض له عن العمل الوطني في مجال الحريات وحقوق الإنسان ومناصرة الحراك الجنوبي منذ بداية انطلاقة في العام 2007.

سلام عليك أيها الرائد الخالد أبي بكر السقاف.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى