القضية الجنوبية.. الظاهر والمستتر

> صالح البيضاني

> تحوّلت القضية الجنوبية خلال العقدين الأخيرين من تاريخ اليمن المعاصر إلى ركن أساسي من أركان المشهد السياسي اليمني المضطرب والحافل بالتعقيدات، والواقع أن هذه القضية مرّت بمراحل عدة ومتدرجة من ناحية مطالبها ومتطلبات حلها، منذ أن بدأت للوهلة الأولى كحركة حقوقية تسعى إلى معالجة الآثار المباشرة لحرب صيف 1994 التي يعتبرها العديد من النشطاء الجنوبيين الطعنة الناجزة التي حوّلت العلاقة بين الشمال والجنوب من وحدة اندماجية إلى إلحاق جغرافي وإلغاء سياسي وثقافي.

والملفت أن القوى التي عملت بداية على وضع العوائق أمام خطوات الوحدة قبيل العام 1990 وبعده، انطلاقا من اعتبار أن هذه الوحدة مع "نظام شيوعي"، وكان لها الدور الأبرز بعد ذلك في تأزم العلاقة بين شركاء اتفاقية الوحدة، ومن ثم المشاركة في اجتياح الجنوب في العام 1994، هي ذاتها التي تتصدر اليوم المشهد المتأزم مع المكونات الجنوبية التي ورثت مطالب الحراك الجنوبي طوال السنوات الماضية.

وقد اتسمت مواقف العديد من تلك القوى السياسية والراديكالية في شمال اليمن خلال العقدين الماضيين بالتعامل بنوع من الانتهازية مع مطالب "الجنوب" التي بدأت تتشكل ملامحها الرئيسية في 2007، حيث تقلبت مواقف هذه القوى بين المؤيدة حينا لمواقف الحراك نكاية في النظام السابق، قبل أن تتصدر لاحقا موجة العداء لهذا الحراك الذي أصبح المجلس الانتقالي الجنوبي اليوم رافعته السياسية الرئيسية، إلى جانب قوى أخرى لا تتمتع بنفس الحضور الشعبي والتنظيم السياسي والعسكري.

ومن وجهة نظري كمتابع لنشوء القضية الجنوبية منذ حرب صيف 94 وتطورها بعد ذلك، كان القائمون على الحراك الجنوبي السلمي واقعيين في مطالبهم، التي بدأت منذ بروز تداعيات اجتياح الجنوب في 94 وما ترتب عليها من آثار نفسية وثقافية واجتماعية واقتصادية كارثية، من أبرزها تسريح الآلاف من الجنوبيين المنتمين إلى قوات الجيش والأمن، ومصادرة الكثير من الممتلكات العامة والخاصة، وإضعاف الحزب الاشتراكي اليمني، الشريك في توقيع اتفاقية الوحدة.

غير أن الأخطر من ذلك، تمثل في استدعاء قوى سياسية واجتماعية ودينية في صنعاء، لإرث الصراع في جنوب اليمن واستخدامه كأداة في تصفية الطرف الجنوبي المهزوم في الحرب، وهي ذات الاستراتيجية تقريبا التي يتم انتهاجها اليوم، عبر استحداث مكونات جنوبية لمواجهة مكونات جنوبية أخرى.
وفي خضم هذا التعامل الانتهازي مع القضية الجنوبية، ومحاولة تذويبها، من دون الالتفات الحقيقي إلى أسبابها، والرهان بدلا من ذلك على تجاهلها أو مواجهتها بالقوة في بعض الحالات، تم التفويت في الكثير من الفرص السانحة التي كان يمكن أن تكون نقطة تحوّل حقيقية في معالجة مطالب الجنوبيين.

أولى تلك الفرص السانحة كانت في أعقاب حرب صيف 94 نفسها، حيث كان بالإمكان تكريس انطباع بأن هذه الحرب لم تكن تستهدف جغرافيا الجنوب وثقافته، بقدر ما كانت ضد طرف سياسي بعينه لم يكن أصلا في ذلك الوقت يحظى بالشعبية التي تجعل خروجه من المشهد شيئا تصعب معالجة آثاره.

غير أن ما حدث كان العكس تماما، حيث شرع الطرف المنتصر في تنفيذ سلسلة من الممارسات الإقصائية، سرعان ما ظهرت آثارها النفسية والاجتماعية بعد ذلك بفترة وجيزة، قبل أن تتبلور في قوام منظم من خلال تأسيس جمعية المتقاعدين العسكريين والأمنيين الذين تم تسريحهم من أعمالهم بدلا من احتوائهم، وقد كانت هذه الجمعية مجرّد البداية فقط ورأس جبل جليد التداعيات التي شهدتها المحافظات الجنوبية لاحقا.

الفرصة الثانية التي تم التفويت فيها لمعالجة آثار حرب 94 تبدت في أعقاب احتجاجات 2011 التي شارك فيها الجنوبيون بفاعلية، يدفعهم الأمل بأن التخلص من نظام الرئيس السابق علي عبدالله صالح يمكن أن يكون الاستحقاق الذي يجعلهم يعيدون النظر في موقفهم الحاد من الوحدة.

ما حدث في الواقع هو أن الجزء الأسوأ من نظام الرئيس السابق عبدالله صالح والذي تصدر حرب 94 هو ذاته الذي عاد لتصدر المشهد بعد رحيل الرئيس صالح عن السلطة، وهنا شعر قسم كبير من الجنوبيين بخيبة الأمل مرة أخرى، قبل أن تبرز بارقة أمل جديدة تمثلت في مؤتمر الحوار الوطني الشامل في العام 2013 الذي كانت على رأس أجندته، القضية الجنوبية، التي أصبحت محورا رئيسيا من محاور المؤتمر.

غير أن الخلافات التي غذتها بعض مراكز القوى التقليدية في صنعاء، تسببت لاحقا في موجة استقالات من قبل بعض ممثلي الحراك الجنوبي في مؤتمر الحوار الذي انتهى هو أيضا نهاية دراماتيكية سيئة بعد رفض الحوثيين لمخرجاته واجتياحهم للعاصمة صنعاء في سبتمبر 2014.

وبدأت مرحلة أكثر سوءا في تاريخ الجنوب المعاصر، بعد الانقلاب الحوثي، حيث قامت هذه الجماعة الأيديولوجية بعد شهور من سيطرتها على صنعاء باجتياح ثان لمدينة عدن، بعد أن كان الحوثيون أنفسهم يمارسون الانتهازية السياسية قبل ذلك من خلال حديثهم عن دعم مطالب الجنوب بما في ذلك حقه في تقرير مصيره!

وفي شوارع عدن التي انتشرت فيها جحافل الميليشيات الحوثية استجمع الجنوبيون كل مشاعر الإحباط التي تملكتهم طوال ثلاثة عقود واسترجعوا صور المواجهات السابقة مع مراكز القوى في صنعاء، ليخرجوا بشكل عفوي في مقاومة شعبية استطاعت هزيمة الحوثيين وطردهم من عدن بعد أشهر قليلة فقط من وصول جحافلهم إلى المدينة.

وبالرغم من مشاعر الحزن والحنق التي كثفتها صور الخراب الذي لحق بمدينة عدن المسالمة، كان الجنوبيون على استعداد، لتأجيل مطالبهم من أجل إرساء ملامح رؤية سياسية جديدة قائمة على هزيمة المشروع الحوثي المموّل من إيران في اليمن أولا، قبل أن تعيد بعض مراكز القوى التقليدية تنظيم نفسها تحت عباءة الشرعية لاستئناف الخطاب المعادي للقضية الجنوبية ومطالبها، وهو الأمر الذي تحوّل إلى حالة مزمنة من عدم الثقة بكل ما تقوله أو تصنعه تلك القوى من مواقف واتفاقات، بعضها سياسي وإعلامي وآخر عسكري شبيه بالمواجهات التي شهدتها محافظة أبين وبدت لأول وهلة صراعا بين فرقاء الجنوب أنفسهم، لكن العودة إلى تاريخ القضية الجنوبية وتعقيداتها المستترة والخفية تكشف عمّا هو أعمق من ذلك وأكثر تعقيدا.

"العرب"

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى