مأرب يتكلم!

> يبدو أن السل و الجرب عادا من جديد لمغازلة المليحة (صنعاء)، تماما كما أن الموت يعتام في أزقتها و شوارعها بلا حسيب ولا رقيب، هكذا يمكننا استشفاف ما وراء بكائية الشاعر الكبير عبدالعزيز المقالح الذي يتأهب لوداع شعبه بكثير من الألم وفتات من الأمل.

* يقاوم الدكتور عبدالعزيز وهو في نزعه الأخير رغبة الموت باكيا على مدينة حوت كل شيء، وجمعت بداخلها كل متناقضات الحياة بصخبها وسحرها وقسوتها، ومع ذلك لا يرى له وطنا يودعه أو ينعاه، ففي زمن كسفت فيه شمس الحكمة، وتوارى فيه الفقه بعيدا عن القلوب الرقيقة والأفئدة اللينة، ليس له وطن أو أرض أو عنوان سوى الكلمات.

* وعندما يكتب الدكتور المقالح مرثيته الأخيرة بآخر أنفاس جوارحه، فإنما في الواقع يستنجد بنبض الحنين إلى (صنعاء)، فقد أدرك بعد رحيل العمر أن السفر إليها لم يعد معبدا بسحر الشعراء الذين يتبعهم الغاوون، ولا بتجليات الأغاني والأماني، لقد غيرت الأحداث مسارها، فبات كل من يأخذها غلابا، كأنما يجبر المقالح على الموت بين دفاتر كلماته.

* قرأت رثاء الدكتور عبدالعزيز المقالح لنفسه، كان رثاء مبهما، لكنه موجع ومؤلم، دموع مدرارة دون نحيب، حرقة ولوعة صامتة، خوفا من مقصلة الرقيب، مفردات قصيدته الأخيرة بللها بريق وطن غارق في دياجير ليل طويل لا ينجلي، كما لو أن (صنعاء) كفت عن الكلام وعن المناوشة، و تركت الكلام فقط لمأرب، آخر حاجز تاريخي يمكن أن يحول بين الفناء والموت صامتا.

* شاعر اليمن الأول، الذي كان أول من نال الدكتوراه بتفوق، كان ناعم المفردات، مرهف الحس، لكنه كان عنيدا صلدا وثائرا، فهو الوحيد الذي حول الاستهزاء بشعراء اليمن إلى شموخ و كبرياء وعزة، وضعت لليمن مكانة شعرية لم يدانيه فيها أحد.
* وعندما كان الدكتور طه حسين يلوي شفتيه أمام شاب يمني يلح على نيل الدكتوراه في الشعر، سأل الشاب في تهكم : وهل لليمن شعراء؟

* يومها لم يلجأ المقالح إلى الدواة و الورق ليفرغ عليها زفراته، بل جعل من السؤال المتهكم سلما صعد درجاته في تحد ورباطة جأش حتى نال مبتغاه بامتياز.
* ليلة المقالح ليست كبارحة طه حسين، هنا يدنو الأجل من الشاعر الحصيف، لم يعد يمتلك مؤونة يدافع بها عن وطنه الورقي، الكلام اليوم لم يعد لتلك المليحة (صنعاء)، كان يدرك منذ القدم أن حبه وعشقه لصنعاء وطن صامت بناه بأنين كلمات خافتة الأضواء، لهذا استودع لسانه الثوري ديوان (مأرب يتكلم).

* هل هناك وجه للشبه بين وداعية الشاعر الأموي مالك بن الريب، ووداعية الشاعر اليمني الدكتور عبدالعزيز المقالح؟
بالتأكيد جمعهما شعور واحد، شعور دنو الأجل، لكن الفارق كبير بين وداعية شاعر كان يعيش الرمق الأخير من العصر الأموي، وشاعر محدث معاصر اكتشف أن وطنه مجرد خيط دخان.

* بالتأكيد كانت تلميحات المقالح في رثائه لنفسه تختزل وضع اليمن في تركيبته الغريبة، فهو عندما يبكي نفسه فهو يبكي حال (يمن) ترقص الأفاعي والثعابين على رأسه، يبكي وطنا ترك عصمته بيد اللصوص والقراصنة يخنقون حنجرته ولسانه، ثم يقدمون الناس في موسم الحروب الكروب وقودا وقرابين تذبح على أبواب الطغاة الذين عاثوا فسادا لأكثر من 60 عاما.

* الدكتور المقالح سيوارى جسده ثرى وطن كلماته المكلوم، لكن كل الكلام صاغه شعرا لمأرب، سيدة الرمال، كما لو أنه استشرف المستقبل قبل خمسين عاما متنبئا ببصيرته الفذة أنها من ستقرر مصير تلك المليحة التي يعشقها السل والجرب!

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى