وجدان شاذلي .. سر السنوات الخضراء العجاف

> محمد العولقي

> في العام 1989 انهار جدار برلين، وسقطت أسطورة الجيش الأحمر الذي لا يقهر، وشهد العالم تغيرات دراماتيكية سريعة ، كان الدب السوفياتي يترنح فوق صلعة (ميخائيل جورباتشوف) ويوشك على السقوط من حالق الاشتراكية، في نفس اللحظة التي بزغ فيها فجر عصر الفضائيات بقوة وإلحاح عنيفين ، فيما راح شباب نهاية الألفية الثانية يرقصون ويتمايلون على صخب موسيقى (ديدي واه).

تلك السنة سجلت آخر تتويج رسمي لوحدة عدن ببطولة الدوري ، بعدها لا شيء تحقق للوحدة رغم أن تلك السنة ارتبطت بحادثة انتقال النجم الكبير الجناح الأيمن الخطير (وجدان شاذلي) من الشرطة إلى الوحدة ، في صفقة مدوية أرعبت الأندية الجنوبية ، فها هو الوحدة القوي الذي جمع في تلك السنة بين بطولتي الدوري والكأس على حساب غريمه التاريخي التلال، يضاعف من منسوب قوته وسطوته بضم أخطر جناح أيمن عرفته الملاعب الجنوبية في الثمانينيات والتسعينيات.

توقع المتابعون للأحدث اللاهبة والصفقات الملتهبة أن يحدث انتقال (وجدان) إلى الوحدة هزة أرضية عنيفة على مقياس تسعة ريختر ، وتوقع النقاد أن يستحوذ الوحدة بقيادة مدربه العبقري (أحمد صالح قيراط) على بطولات آخر موسم تشطيري، لكن ما حدث للوحدة من تراجع مخيف في المستوى وفي العطاء ظل لغزا صعب على أمثالي فك طلاسمه .. ولأن المصائب لا تأتي فرادى، فقد تراجع منسوب الأخضر العدني تراجعا مخيفا ومقلقا، فعندما خسر الوحدة بطولة الدورة الصيفية في نفس العام، لم يكن نجم شمسان الراحل في عز شبابه (عبدالرب حسين) يدري أنه يدق في نعش الوحدة المسمار الأخير، تماما مثلما لم يدر بخلد (وجدان شاذلي) أنه لن يتذوق مع فريقه الجديد بلح الشام ولا عنب بطولات اليمن، رغم أن الفريق يعاني من تخمة اللاعبين النادرين.

لقد سألني قارئ نابه سؤالا جدليا سيسيل الكثير من الحبر على أروقة وسائل التواصل الاجتماعي ، هل (وجدان شاذلي) الذي استحوذ على النجومية المطلقة في نادي الوحدة طوال عقد التسعينيات هو أهم لاعب وحداوي أثرى أرشيف الوحدة أمجادا ..؟ .. لاحظوا أن السؤال مفخخ ويحتمل الأمرين المدح والقدح معا ، من هنا سأكون أمينا مع (وجدان)، ومع عشاقه ، ومع التاريخ نفسه : (وجدان شاذلي) ضاعف من حلاوة الاستعراض كثيرا، بل إنه رفع من سقف تلك الحلاوة في زمن كانت فيه الملاعب اليمنية حبلى بالكثير من اللاعبين الأفذاذ ، (وجدان) اختلف عنهم أنه كان في فترة الجفاف والسنوات الخضراء العجاف قائدا ولاعبا ومفكرا وصانعا للألعاب، خذلته الظروف في عقد التسعينيات لأنه وجد نفسه أمام مرحلة انتقالية خطيرة ، لقد تأكد للجميع أن الملك (الأحمدي) لم يعد قادرا على العطاء ، الإصابة كانت خطيرة أجبرت القائد الكبير المحنك ملك مملكة الفيحاء على الخروج من حسابات ناديه.

وللذين لا يعرفون دور (الأحمدي) ، أقول : الأحمدي كان رمانة ميزان الأداء، صانع ألعاب يسكن الكمبيوتر قدميه، وهداف عند الضرورة ، وقائد حقيقي له تأثير سحري على نفسيات زملائه ، وهو المخول الوحيد بتعديل أوتار طريقة اللعب حسب رؤيته ، لم أر لاعبا مثله يختصر اللعب بتمريرة حريرية يضع من خلالها المهاجم رأسا برأس أمام حارس المرمى ، والملك قائد حقيقي يتحمل كل الأعباء، ويعرف كيف يشحن زملاءه، و كيف يبث فيهم طاقة معنوية هائلة ، باختصار جينات (الأحمدي) القيادية فطرية من الصعوبة بمكان أن يتوارثها لاعبون آخرون، وأولهم بلا شك (وجدان شاذلي).

وفي غياب بدر (الوحدة) وملهمه ومعلمه والمخ الذي يقرأ شفرات المباريات بقدميه الساحرتين، ورث (وجدان) تلك التركة الكبيرة المختلة الموازين ، كان عليه أن يضبط الإيقاع من الخلف، و أن يتحكم في منسوب الأداء، وأن يفتح الثغرات في دفاعات الخصوم، وأن يصنع الفارق، اجتهد كثيرا في خلق التوازن النفسي والتكتيكي ، لكنه للأمانة الأخلاقية لم يستطع أن يكون صورة طبق الأصل من الملك (الأحمدي) ، بسبب الفارق الكبير في العقلية ، وفي مركز اللعب، وفي نوعية اللاعبين الذين كانوا يحتاجون إلى قائد ملهم يصحح أخطاءهم ، وينوب عنهم في تحمل الضغط النفسي عوضا عنهم ، فارق يمكن اختزاله في عبارة واحدة : الملك (الأحمدي) كان نصف قوة الأخضر بلا أدنى جدال ، وبدونه يصبح الوحدة بلا طعم ولا رائحة ..

طغى (وجدان الاستعراضي) على (وجدان القائد الحاسم) ، إنه كان دائما على استعداد لأن يضع مدافع التلال (جمال نديم) في وضع لا يحسد عليه أمام الجماهير ، ممكن (ينطط) الكرة على رأسه عشر مرات حتى تفرغ الحناجر من صرخات الإعجاب ومن السخرية بمن يلازمه كظله ، وممكن جدا (يطبطب) الكرة على ركبتيه مرات ومرات على خط التماس لينال الكثير من الهتافات المثيرة ، وممكن جدا يحجز الكرة بجسده النحيل حتى يحاصره لاعبان أو أكثر ، ثم يبدأ فاصل من عرض سيركه المثير ينتهي في الغالب بإرساله إلى خط التماس حيث الجماهير الغفيرة تتلقفه بتعاطف يفوق الخيال ، يحصد (وجدان) عبارات الثناء، و يحصد ضحاياه عبارات اللوم والشماتة والسخرية ، لقد كان (وجدان شاذلي) على استعداد لأن يحتفظ بالكرة بين قدميه طوال المباراة مقابل أن يسمع آهات جمهوره ، وفي ذلك العمل تعويض عن النتيجة أو البطولة ، كما أنه كان دائما يدغدغ مشاعر جماهير الوحدة بدخوله أرض الملعب منفردا ، فيهتز مدرج الوحدة عن بكرة أبيه وأمه، يبدأ في التسخين وأذناه هناك حيث الهتاف المدوي والتصفيق الذي يلهب مشاعره دون غيره من اللاعبين.

هذا الفارق الكبير بين الملك (الأحمدي) الذي كان فنانا مذهلا في رشاقة حركته، وفي قدرته الفذة على صناعة الفارق بأقل استعراض ممكن و(وجدان شاذلي) الذي كان يصب كل اهتمامه في العمل الاستعراضي الفردي سعيا لإرضاء جنون وفنون عشاقه وأنا أولهم ، لكن (وجدان شاذلي) كان يفتقد (كاريزما) وروح التعاطي مع البطولات ، وفي ذلك اجتهاد لا غير، لقد كان يردد دائما (نعم أستطيع)، ولم يقل يوما (نعم نستطيع)، والفارق بين التعبيرين كبيرا جدا، يلخص فلسفة هذا اللاعب الذي وزننا فنه الكروي الرفيع بطولات بحجم هتافنا له ، عندما يسجل المدافع الرومانسي (خالد عفارة) هدفا تلتهب حناجر جماهير الوحدة : هذا الهدف من سجله .. (خالد عفارة) دخله ، كان (وجدان شاذلي) يفتش في جرابه عن (حاوي) يعرف كيف يعيد الهتاف الجماهيري إلى منطقه ، في سبيل هذا المنطق الفردي البحت يستطيع (وجدان شاذلي) مراوغة كتيبة مشاة كاملة مرة ومرتين ، لينسي الجمهور تجليات (عفارة) أو الحركات الأكروباتية للبرق (مشتاق محمد سعد)، فعل ذلك أمام أهلي تعز عام 1992، راوغ ثمانية لاعبين (رايح جاي) قبل أن يسجل هدفا مارادونيا مذهلا، وهو أمر دفع قائد الأهلي (عبد العظيم القدسي) لأن يشارك جمهور الوحدة التصفيق الحار.

(وجدان شاذلي) كان يحبذ أن يتركز اللعب حول خاصرته اليمنى يركض بالكرة وكأنه (أحدب نوتردام) يقطع المهاجم (إسبرنت) طويل في محاولة للحاق بعرضية (وجدان) لكن هذا الأسلوب المكشوف يحول بين جهده و(اسبرنت) المهاجم الذي يكون (فضل الأوبلي) أو (خالد العسل) أو (منيف شائف) بعد انتقاله للوحدة قادما من الميناء بمبلغ مائتي ألف ريال لم يستلم منها الميناء ولا مليما حتى الآن.

نعود مرة أخرى إلى أصل وفصل السؤال : هل أحدث انتقال (وجدان) للوحدة الأثر المطلوب في مسار نادي الوحدة على مستوى الألقاب ..؟ .. بالطبع لا .. لأن الوحدة لم يفز مع (وجدان شاذلي) طوال 12 عاما بأي لقب رسمي ، ما عدا بطولة كأس المريسي الودية، وبطولات أخرى مناسباتية مثل كأس الصحافة وكأس الحليب ، وهي بطولات ودية وجودها مثل عدمها .. سؤال الساعة الأهم و الأخطر : من صنع تاريخ الوحدة كرويا مع نهاية عقد الثمانينيات، وخفض كثيرا من سرعة سطوة التلال..؟

بالتأكيد هناك لاعبان انتقلا للوحدة في عام واحد تقريبا، وكانا الطوفان الكبير الذي أغرق كل سفن المنافسين وأولهم التلال العميد ، بالطبع (وجدان) ليس من بينهما ، فهو بريء من تلك البصمات الخالدة براءة قدمه من أغنية المنولوجست (محمد علي كعدل) : لما الحكم صفر وأعلن (بلنتي) للوحدة فورا ، (خالد عفارة) ما قصر سكنها في الركن الأيسر.

أترك المجال مفتوحا أمام عشاق ومحبي زمان وصل (الوحدة) لينبشوا في الذاكرة لمعرفة هوية هذين اللاعبين اللذين صنعا للوحدة تاريخا مجيدا لموسمين سمينين ، رجحا كفة الأخضر على كفة التلال الأحمر ، وللحكاية بقية إن كان في العمر بقية ..!

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى