لودر.. مسقط قلبي
> ينتابني الحنين إلى زمان وصل (لودر) حين كانت ملهماً للشعراء، فاتحةً لشهية المبدعين، واحةً خلابةً للمفكرين، حباها الله فيض الغمامة، صحتها تاج على رؤوس الشيوخ الركع والأطفال الرضع.
أتحاشى دخول مدينة (لودر) ليس لأن دمعتي على خدي فقط، فالعبد لله بكاء بامتياز ولا يقل نواحاً عن حمامة أبي فراس الحمداني، لكنني أبكي لودر مسقط قلبي ورأسي وكياني إرثاً وملكاً تاريخياً لم نحافظ عليه كالرجال.
لودر دائماً تغلي على لساني، لكن الكلمات عنها في ظل ما تعانيه من ارتجال وارتباك في كل مجالات الحياة تبقى أكثر شيخوخة من كل الأشياء، سماؤها ملبدة بغيوم سامة تمطر أمطاراً حمضية لا خير فيها لزرع أو ضرع.
بكيت حزناً على مسقط قلبي ورأسي، على (لودر) الفيحاء والغناء التي سلبت ألباب الشعراء وسحرت كل من زارها أو سكن بين أحضان جبالها وسهولها، بكيت أطلال ذلك الشاعر الذي تمنى أن تكون لودر مثوى رفاته، بكيت مجداً غابراً كانت فيه لودر مرآة مصقولة لامعة ترى صورتك في شوارعها بوضوح من شدة نظافتها.
ليس مقبولاً من السلطة المحلية، أو حتى من كبار أعيانها ووجاهة مشايخها، أن يبرروا وضع المدينة المتردي بالواقع أو يلعنوا الظروف، لأنني لست أؤمن بالظروف، فالناس هم الذين يصنعونها على حد تعبير (برنارد شو)، والحليم تكفيه الإشارة.
قديماً كانت (لودر) تستقبلك بأشجارها الباسقة وبتناسق مبانيها وروعة تخطيطها المعماري، تستقبلك بدعاء كروان الصبح إذا تنفس وتودعك بشفق الليل إذا عسعس، تحتويك همسات أزقتها المتلاصقة الشفاه، ويحتضنك سوقها الأثير الذي كان أشبه بسوق عكاظ، تصافحك بساتينها وتنعش أنفاسك رائحة حقولها وانسيابية جداولها، وتكحل عينيك منارة (عرفان) التي ليس لها مثيل.
واليوم تستقبلك (لودر) بجبال من النفايات والمكبات ومخلفات الحيوانات النافقة وسبخة آسنة لمجاري الصرف الصحي حاضنة للحشرات الطائرة والزاحفة، لم يعد للودر خريرها الصباحي، ولم يعد بلبلها يغني على غصون أشجارها، زيارة واحدة للودر تندرج على مخاطر بيئية لا حصر لها، الكل يشاهد (لودر) وهي تغرق في بحيرة عائمة وتنام بين كتل من مخلفات القمامة والنفايات، ولا أحد يتحرك أو يحتج أو يصيح من باب أي فصيح.
عندما توغلت داخل المدينة بعد طول غياب غفت نبضات قلبي في صدري، ارتسمت في داخلي سعادة مكفنة بالرجاء تجلت بانفراج شفتي، وبريق أمل زاد من وميضه فيض دموعي فقلت لنفسي: إنه الحب وحده الذي يجعل الحياة هنا تدور وسط فوضى الحواس، ووسط بؤس وجوه تعتريها غبرة وترهقها قترة.
أتذكر (لودر) في أيام سادت ثم بادت، كيف كانت ثقافة ناسها وأناقة شوارعها ونظافة مقاهيها، وكيف كانت المعرفة بالنسبة للإنسان اللودري تشكل وجدان مدينة هادئة لا تسمع فيها لاغية، أتذكر أنها كانت مدينة علم وثقافة ورياضة تغتسل من مياه رقراقة بعضها يأتي من عل وبعضها يتفجر من أسفل الأقدام، الأولى أنوار الطبيعة، والثانية الفيض الإلهي.
ليس مقبولاً من السلطة المحلية، أو حتى من كبار أعيانها ووجاهة مشايخها، أن يبرروا وضع المدينة المتردي بالواقع أو يلعنوا الظروف، لأنني لست أؤمن بالظروف، فالناس هم الذين يصنعونها على حد تعبير (برنارد شو)، والحليم تكفيه الإشارة.