رهائن الوضع الراهن

> وسط إلحاح مستمر من المقربين مني، على قلتهم، بمواصلة الكتابة، أواصل الكتابة. جزء مني يخبرني بأنني أفعل الصواب دائمًا حينما أكتب، أما جزئي الآخر، فيشبه وجهه وجه عدن اليوم: بائٌس ويائس يبحث عن تيار مستقر، وليست الكلمات من تغريه وليس الحروف، جزء يملأه ويسكنه الخوف من المجهول، ويفكر كثيرًا كيف بإمكانه النجاة.

تخبرني أمي، أول النساء قراءة لي، وهي أول من قرأ لي من بين العالمين، أنها تشعر بسعادة ورضى عندما ترى صورتي على صفحات صحيفة "الأيام" وإن لم تكن لتقرأ ما أقول، بداعي الخوف مما أقول، رغم أن قولي لا يخيف، بالقدر الذي أصبحت عليه مدينتي ومدينتها، ونحن سويًا من ولدنا وترعرعنا فيها، وعشنا نحن وعاشت هي فينا، سواء هناك في "صيرة"، حيث نسيم البحر عانق ضفائر أمي صغيرة، وحيث لا نسيم ليعانق ضفائر الحسناوات الآن، أو في "شعب العماصير" حيثما يقول أبي إنه يحب أن يحيا الصخب ويموت بهدوء في حي تنمو على أرضه خزانات المياه الفارغة كالأشجار، وتصنع أصوات "الدينمات" فيه إيقاع الحياة.

منذ أيام كثيرة، أخبرت أصدقائي بأنني لم أكن مجنونًا حين رفضت الحرب، منذ البداية، فالحرب تقتل عدن، دونًا عن بلاد الكون، بطريقة وحشية لا إنسانية فيها، منذ عرفت الحرب، وأحب الموت هذه المدينة، حتى أصبحت لا تجد النور ولا السرور، ولا صوت يعلو فيها فوق صوت المأطور سوى صوت المواطن المقهور من جراء ما بات يواجهه من ويلات وثبور وسط عجز كلي ممن يفترض أنهم كبار القوم حتى عن إضاءة شمعة يلعنون بها الظلام، فينام من غلبه التعب وهو يعتقد بأن ثمة هنالك من يحاول أن يصنع له شيئًا لا يشبه الخوف الذي يصنعونه ويوزعونه مجانًا على الجميع شتاًء وصيفًا وربيعاً.

نعم كنت المجنون الوحيد، سواء في نظر كل الأصدقاء أو أولئك العقلاء من زعماء ورؤساء وسفراء وكتاب رأي وقراء سعداء وأشقياء، الذين اقتنعوا بأننا نسير بخطى ثابتة متجهين بعيدًا عن الأيدي العابثة، منذ سنوات ست، حينها توقعت الحرب ومسارها، لكنني لم أكن أعلم شيئًا بالطبع عن الطريقة التي سيكون عليها الموت، الموت الذي نجا منه الرئيس المحاصر وقتذاك نافذًا من قصر لا منافذ للدخول إليه والخروج منه إلا للهواء.

نجا الرئيس من الموت، لينجو بنا، فنجا هو، ووقعنا نحن، ومعنا عدن، رهائن للوضع الراهن.

وضعنا الراهن الذي لا غالب فيه أو مغلوب وبحت فيه الحناجر التي تبلغها القلوب المتعبة وهي تنادي بإنهاء العبث الحاصل الذي أصبح متحكمًا بكل مناحي حياتنا، وليس الكهرباء فحسب، وهي التي غابت بعد أن اقتنعت بأنها سلعة ثمينة في بلاد الأيادي الأمينة التي بات مسؤولوها يسهلون لشركات تأجير الطاقة عملها بحجة عدم إمكانية إتمامهم (عملهم) على إصلاح وتحديث وتجديد شبكة الطاقة، ومن ثم يعجزون حتى عن الإيفاء بالتزاماتهم تجاه من تعاقدوا معهم بغية (تعقيد) حياتنا أكثر مما هي معقدة، وليس لفك العقدة التي لم تجد من يفككها في السلم كما في الحرب فإذا بها تفكك البلد بأسره لتأثيراتها على مختلف الخدمات والقطاعات، ومن أبرزها خدمة المياه غير المتوفرة من الأساس بوجود الكهرباء والمنعدمة تمامًا بغيابها.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى