هل يختفي الورق في زمن التقنيات المتطورة؟

> فيديل سبيتي

> إضافة إلى الاستعمالات المتعددة.. كثيرون ما يزالون يصرون على قراءة الكتب والصحف أو الكتابة على دفاتر.
للورق استعمالات كثيرة في حياة الناس اليومية، فالجميع يستخدمه في كل أشكاله، من الصحف الورقية إلى أكياس الورق إلى أوراق المعاملات الإدارية إلى الدفاتر المدرسية والكتب، وكذلك النقود الورقية وورق السجائر التي تباع لمليارات البشر، وغير ذلك كثير.

لكن الورق يشتهر بكونه أداة يتم التدوين عليها، فهذا العمل هو الذي أداه منذ بداية اختراعه من قبل المصريين في أوراق البردي أو لدى الصينيين القدماء الذين اخترعوا الورق كما نعرفه اليوم، وكان للورق أن خفف من حمل ألواح الطين التي خطت عليها شعوب بلاد ما بين النهرين كتاباتهم المسمارية أو من أحجار الجرانيت التي روى فوقها المصريون قصص حروبهم وملوكهم، كما هي حال حجر الرشيد الذي اكتشفته بعثة نابليون بونابرت إلى مصر ومن خلاله تمكن العالم الفرنسي تشامبليون من تفكيك اللغة الهيروغليفية المصرية.

الورق للكتابة أولًا
ارتبط الورق في التاريخ بحاجة الإنسان إلى التدوين بالحروف أو بالرسم، ليترك أثرًا يروي ما كان يرغب في أن يحتفظ به للأجيال المقبلة، وليس في نسخة واحدة إنما في نسخ عدة سهلة التوضيب والنشر بين البلاد والمقاطعات، لذا يمكن وصفه بأنه المرادف القديم لذاكرة الإنسان وربما أهم منها، إذ إن الذاكرة تتعرض للنسيان أو للتحوير بحسب أهواء من يتذكرها، بينما كان الورق بمثابة حافظة زمنية ومكانية لكل تاريخ قديم للإنسان في عهوده المعرفية الأولى، ومن ثم في نقل هذه المعرفة كتابة.

تاريخيًا يعود اكتشاف الورق إلى المصريين والصينيين، ويشاع بما يشبه التأكيد بين الباحثين أن بداية المسيرة التاريخية للورق تعود إلى الألف الثالث قبل الميلاد في حوالى 2700 ق. م، ولو أن الكتابة سبقت ظهور الورق، لكن كان اختراع الورق سببًا لانتشار الكتابة التي كانت حكرًا على الكهنة وأصحاب السلطان ومتلقي العلوم النادرين المقربين من السلطة أو من رجال الدين، وهذا الانتقال حدث بفضل المصريين القدماء بعد اختراعهم ورق البردي الذي انتشر بشكل واسع في منطقة البحر الأبيض المتوسط حتى القرن الـ 11 الميلادي، ومنذ ذلك الحين راحت تختفي الكتب الحجرية والصلصالية الثقيلة وغير العملية، وبدأت تظهر البرديات الطولية، وبحسب علماء الآثار فإن أطول ورقة بردي موجودة هي "بردية هاريس" التي وصل طولها إلى 133 قدمًا (41 مترًا) وعرضها إلى 16 قدمًا، وتضم حوالى 1500 سطر، وتم العثور عليها في مقبرة بالقرب من مدينة هابو التاريخية القريبة من مدينة الأقصر جنوب مصر، واشتراها جامع الآثار أنتوني تشارلز هاريس عام 1855، ثم دخلت في مجموعة المتحف البريطاني في العام 1872.

وجاء في النص الهيراطيقي للبردية قائمة بأوقاف المعبد وملخص لعهد الملك رمسيس الثالث من الأسرة الـ 20، ويقال إن المصانع المصرية كانت تنتج سبعة أصناف من ورق البردي، أجودها وأغلاها يستخدم في الدواوين، حتى إن الخليفة عمر بن عبدالعزيز أمر بالاقتصاد في استعمال الورق بسبب ارتفاع أثمانه، إذ إن ورق البردي كان قيد الاستخدام في مصر بعد الفتح الإسلامي.

الوراقون العرب
بعد المصريين القدماء بدأ الصينيون صناعة الورق من لحاء الأشجار والنباتات في القرن الثاني الميلادي، ثم تواصل التقدم الصيني في صنع الورق عندما تم التوصل إلى طريقة حشو سطح الورقة بالغراء والجيلاتين للحد من انتشار الحبر، وكان ذلك عام 700 بعد الميلاد، ثم انتشر بعدها تصنيع الورق في كوريا واليابان، وانتقل إلى العرب والمسلمين عندما دخلوا سمرقند عام (93هـ/712م)، وكان للعرب والمسلمين بعد ذلك فضل تعريف العالم الأوروبي بالورق، وكانت بغداد المدينة الأولى التي تحتضن المصنع الأول للورق في بلاد العرب في عهد هارون الرشيد، وقد أسس هذا المصنع الفضل بن يحيى في العام (178هـ/794م)، ثم انتشرت صناعة الورق بعدها في أرجاء العالم الإسلامي ودخلت أوروبا من طريق الأندلس، بحسب المعلومات التي أوردها الباحث حسام الدين صالح في بحثه الوافي عن تاريخ الورق وأهميته للإنسانية.

ويمكن القول إن العرب في عصورهم الذهبية والمضيئة في الأندلس ومن ثم إبان الخلافة العباسية وتحديدًا في عهد هارون الرشيد، وبسبب الاهتمام الكبير بالعلوم والترجمة، وضعوا الورق في موضعه الذي عرفه العالم حتى عصرنا الحالي قبل اختراع الآلات الإلكترونية أو الكتابة الرقمية، فالعرب عبر الترجمة والتأليف والنقل جعلوا من العمل في الورق مهنة جديدة على العالم، وكان أصحابها يعرفون بالوراقين، وهم بمثابة الناشرين وأصحاب دور النشر اليوم، فهؤلاء كان يقع على عاتقهم نسخ الكتب وتجليدها وتصحيحها وبيعها، وأصبحت الوراقة مهنة راقية اشتغل بها علماء مشهورون على رأسهم الجاحظ وأبي حيان التوحيدي، بل يروى أن الجاحظ مات بسقوط مكتبته عليه، بحسب القصص التراثية.

كتب عالم الاجتماع الفرنسي غوستاف لوبون، "ظل الأوروبيون في القرون الوسطى زمنًا طويلًا لا يكتبون إلا على قطع الرق (من جلد الحيوان)، وكان ثمنها المرتفع عائقًا كبيرًا وقف أمام انتشار المؤلفات المكتوبة، وسرعان ما أصبحت هذه الرقوق نادرة الوجود، ولولا الوراقين العرب لضاعت معظم المؤلفات التي ادعى الرهبان أنهم حفظوها بعناية داخل الأديرة".

أما المؤرخ الرحالة وول ديورانت فيعترف بأن تعميم صناعة الورق من جانب العرب كان سببًا في انتشار الكتب في كل مكان، أما اليعقوبي (891م) فيقول إنه في زمانه كان هناك أكثر من 100 بائع للكتب في بغداد، وأن محالهم كانت مراكز للنسخ وللخطاطين والمنتديات الأدبية، وكان كثير من طلاب العلم يكسبون عيشهم من طريق نسخ المخطوطات وبيعها للوراقين، وألحقت بمعظم الجوامع مكتبات عامة، وكان يوجد في بعض المدن مكتبات تضم كتبًا قيمة يباح الاطلاع عليها للجميع.

أما انتقام بعض الغزاة من الإمبراطورية العربية الممتدة من أقصى غرب أوروبا إلى أقصى شرق آسيا، فكان يتم بحرق الكتب وإغراق المكتبات، ويقال إنه بعد غزو المغول بغداد رموا موجودات مكتبة بغداد التي كانت الأكبر في العالم في زمانها في نهر دجلة، فتحول لونه إلى الأسود بلون الحبر، مما يدل على ضخامة عدد الكتب التي تم إهراقها لطمس حضارة متقدمة على الغزاة القادمين من أقاصي السهوب الأوراسية.

مصانع الورق وتدويره
قبل قرون قليلة بدأت تظهر مصانع الورق في أوروبا، وكانت الماكينة الأولى لتصنيع الورق على يد الفرنسي نيكولاس لويس 1789، وتوالت بعده الابتكارات على يد الأخوين هنري ووسيلي فوردينير، وفي عام 1841 اخترع كيلر في إنجلترا طريقة ميكانيكية لصناعة لب الورق من الخشب، لكن على الرغم من إيجابيات اختراع الورق إلا أن لها سلبيات أيضًا، فهي تستهلك كميات كبيرة من المياه العذبة والطاقة الكهربائية، ومن الأشجار قبل بدء العمل في إعادة تصنيع الورق المستعمل.

واستطاعت صناعة تدوير الورق الإسهام في الحفاظ على البيئة والموارد الطبيعية، وحققت إعادة تصنيع الورق دورة جديدة من الحياة لآلاف الأطنان من الورق غير المرغوب فيه، وأسهمت في إيجاد عمل جديد للورق والبشر أيضًا بعد انتشار ثقافة إدارة النفايات الصلبة، وتوسع مصانع تدوير الورق الذي تحول إلى سوق اقتصادية عالمية ضخمة، بعدما كان الهدف الأول منه بيئيًا.

وتمر عملية تدوير الورق بمراحل عدة أهمها جمع الورق المستعمل وفرزه للحصول على النوعية الصالحة للتصنيع، ثم يأتي دور تقطيع الورق إلى شرائح صغيرة، بعدها يغمر في أحواض مائية تمهيدًا لخلطه للحصول على العجينة التي نريد أن نصنع منها الورق المطلوب، ويمر بعدها بمراحل أخرى كالتشكيل والتجفيف، وقد سهلت عملية إعادة تصنيع الورق وأصبح بإمكان الأفراد القيام بها يدويًا عبر وسائل تصنيعية بسيطة.

الورق الإلكتروني
لكن هل سيختفي ورق القراءة بسبب ظهور الأوراق الرقمية والنصوص الإلكترونية؟

كثيرون هم القراء الذين ما يزالون يصرون على القراءة من الكتب الورقية أو في الصحف أو الكتابة على دفاتر ورقية لأسباب كثيرة وهم أنواع، فمنهم من يرغب في عدم اختفاء الكتابة الورقية على أنواعها كأحد أهم ما تركه التراث الإنساني، وبعضهم الآخر يفضل القراءة الورقية بسبب الانزعاج من ضوء الكمبيوتر أو الهاتف المحمول، بينما يجد آخرون متعة في جريان القلم وحبره على الورق، وفي القراءة في كتاب ووضع الملاحظات عليه والتوقف عند صفحة معينة ثم العودة إليها ساعة يشاؤون من دون جهد كبير تحتاج إليه الشاشات المضاءة والمؤذية للعين والمانعة لحرية الحركة سواء في الحديقة أو الطائرة أو في المكتبة أو في السرير قبل النوم، وهذا ما يطمئن إلى أن الورق ليس إلى زوال في عالم الكتابة والقراءة، ولو أنه مع مرور الوقت سيصبح ترفًا وحكرًا على قلة من الناس، كما جرى مع كثير من الاختراعات القديمة التي خفتت أهميتها بسبب التطور التقني، كالآلة الكاتبة مثلًا.

لكن وعلى الرغم من التطور التقني الكبير إلا أن الورق ما زال بين أيدينا ولم يختفِ بعد، أما عن مستقبله فكل النظريات تبقى مجرد تكهنات، وكل الآراء تبقى احتمالات.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى