"الرناد" تحفة حضرمية تصارع بحثا عن الحياة والعالمية

> تقرير/ جمال شنيتر:

> ​مضت أكثر من عشر سنوات على اختيار مدينة "تريم" في وادي حضرموت بجنوب اليمن، عاصمة للثقافة الإسلامية، مما لفت الأنظار محلياً ودولياً، لا سيما بتميز معالمها المتعددة المبنية من الطين.
عند زيارة مدينة تريم حضرموت، تجذب المرء عشرات الآثار السياحية والقصور المبنية على الطراز المعماري الحضرمي، غير أن لقصر وحصن "الرناد" استثنائية خاصة، باعتباره الشاهد على تاريخ المدينة منذ ولادتها حتى يومنا هذا، ناهيك عن ارتباطه بالحكام الذين حكموا المدينة وحضرموت عامة.

وظائف متعددة
يعتبر الرناد من أعظم الحصون القديمة في حضرموت، ويقع في قلب مدينة تريم، وبني في زمن ما قبل الإسلام، ويبدو للناظر من موقعه وهيئته أنه أدى وظائف متعددة، فقد أقيم كحصن دفاعي وقصر للحكم، واتخذه ملوك الجاهلية مقراً لهم، والولاة في عصر الإسلام مثل الصحابي الجليل زياد بن لبيد البياضي الأنصاري عامل الرسول والخليفة من بعده على حضرموت، وكذا الدويلات المتعاقبة التي حكمت تريم.

المصنعة
يقول مدير مركز الرناد للتراث والآثار والعمارة أحمد كرامة باحماله، "من أسماء القصر القديمة (المصنعة)، كما وردت أخباره في كتب التاريخ، وهناك عدد من القرى الصغيرة والكبيرة والحصون والجبال في اليمن، تعرف أسماؤها حتى اليوم باسم مصنعة أو مصينعة أو المصانع، ومنها مصنعة أفيق ومصنعة مارية بالقرب من ذمار، ومصنعة باصرة بدوعن حضرموت ومصنعة عنس وغيرها".

من يشاهد الأماكن التي تسمى في اليمن "مصنعة"، يجد أنها تتميز بالارتفاع والتحصين، مما يؤكد أن التسمية تعكس الطبيعة التضاريسية للأماكن المذكورة، وقد وصف الهمداني في مؤلفه الموسوعي (الإكليل) المصنعة بأنها الحصن المسور أو القلعة المحصنة، وتعني في لغة النقوش اليمنية القديمة حصن، والمصنعة تعني الحصن والمدينة المحصنة.

ويستدل باحماله في حديثه إلى "اندبندنت عربية "ببعض الإشارات التي تدل على تسمية الرناد بالمصنعة، منها ما جاء أنه في سنة 616هـ بعد مقتل السلطان عبد الله بن راشد، جاء ابن القائد مهدي إلى تريم وحاصر المصنعة، واستولى عليها وعلى حضرموت جميعاً في أول 617هـ، وكذلك ما جاء في حوادث سنة 622هـ، بأنه سقط جانب مصنعة تريم الأيسر من بناء عبد الله بن راشد فبناه مسعود (بن يماني) وأخرج فيه باباً.

توسع وترميم
 يذهب البعض إلى أن أهم الترميمات والتوسعات في قصر الرناد، تلك التي جرت في عهد السلطان عبد الله بن راشد بن شجعنه بن قحطان، حيث يذكر الشاطبي في أدواره، أن السلطان عبد الله تولى السلطنة في 593هـ بعد وفاة أخيه شجعنه بن راشد، إلا أن ترميم وإعادة القصر كان على يد عبد الله بن راشد في عام 600هـ، ومنذ بنائه في الزمن الغابر، كان المقصد الأول لكل من سيطر على تريم، وبطبيعة الحال فإنه كان هدفاً للترميمات والتجديدات والإضافات، مما يعني تغيير كثير من معالمه.

أهمية عسكرية وسياسية
ويلفت باحماله إلى الأهمية العسكرية والسياسية للرناد، مما أدى إلى تنازع كل القوى التي تصارعت على السلطة على مستوى الساحة الحضرمية، فمن يسيطر على الرناد يسيطر على تريم، "وهي أهم مدن الوادي بلا جدال، فقد رأينا سلطات العشائر اليافعية التي سيطرت على أهم مدن الدولة الكثيرية الأولى إثر تفككها وانحسارها، قد اقتسمت حكم تريم بين آل غرامة وآل بن عبد القادر وآل همام، والأخير سمي صاحب الرناد لأنه وقع تحت إدارته، إلا أن الدولة الكثيرية الثانية القرن الثامن الميلادي استعادت سيئون وتريم، واعتبرت تريم أهم مدنها، ومن تريم بدأت تستعيد ملكها الضائع".
كما أن أول ما فعلته تلك الدولة بتريم هو السيطرة على حصن الرناد ومنطقة الخليف، ثم توالت بقية المدينة، وبعدها أضحى مقراً لممثل السلطان الكثيري نائب السلطان بتريم، وأضحى القصر تحت السلطنة الكثيرية حتى أكتوبر 1967م.

نمط معماري جديد
في ثلاثينيات القرن العشرين تعرض الرناد للتشييد مرة أخرى وبنمط معماري جديد، ويذكر المؤرخ الشاطري بأن حصن الرناد بني على أنقاضه قصر سلطاني فيه إدارة نائب لواء تريم، وفي عام 1931م أمر حاكم تريم محمد بن محسن الكثيري بهدم جزء من القصر وإعادة بنائه من جديد، وبالصورة التي نعرفها اليوم، وتعرف هذه بعمارة الخضيب نسبة إلى المهندس علوي بن أبو بكر الكاف الملقب بالخضيب، وقد كتب على البوابة تاريخ الانتهاء من صنعها في 1354هـ.

الدولة الكثيرية
 بنفس المنوال بقي حصن الرناد أو القصر معقلاً للدولة الكثيرية الأولى فالثانية، وبينهما سلطة القبائل اليافعية (آل همام)، ثم أضحى عند تحقيق الاستقلال الوطني لجنوب اليمن 1967م تحت سيطرة الجبهة القومية، ثم مقراً للسلطة الإدارية بعد تحقيق الوحدة اليمنية 1990، باعتبار المدينة عاصمة إدارية (مركزاً)، واستوعب عدة مرافق حكومية وأمنية.

الإهمال وإعادة ترميمه
وبهذا التسلسل والتعاقب بدأ الإهمال يبدو على القصر، في الوقت الذي كان يضم المجلس المحلي لمديرية تريم وإدارات أخرى، وقبل سنوات بدأ جدياً العمل للحفاظ عليه بعد أن هجرته مرافق الدولة لوضعيته السيئة، وفي 2006م بدأ التفكير بإعادته وترميمه ليصبح بعد الانتهاء منه مركزاً ثقافياً ومتحفاً للمدينة، وأقدم المجلس المحلي لمحافظة حضرموت والمجلس المحلي لتريم، بخطوات منذ 2005 حتى 2006م، وأقر رسمياً ترميم القصر بكلفة تزيد على 190 مليون ريال يمني على نفقة الحكومة ومحلي حضرموت، وبإشراف هيئة الحفاظ على المدن التاريخية، وبدأ فعلياً العمل فيه منذ نهاية 2006م وأوائل 2007م.

مكونات القصر
يتكون قصر الرناد من عدة مبان وملحقات وغرف وفناءات داخل الحصن، وغرف متعددة تحتوي على نقوش وزخارف بديعة التنفيذ.
 وتقع في واجهة القصر بوابتان كبيرتان تعلوهما نقوش عربية بديعة، كما كتبت على واجهته أبيات شعرية تخليداً لعمليات التجديد والترميم وعام الانتهاء- 1357هـ- كما هو مبين على واجهته أعلى البوابة الرئيسة، وبذلك يكون قصر الرناد من القصور الكبيرة والقديمة، فهو أقدم قصر حكم منذ قبل الإسلام حتى اليوم يمارس مهامه كمقر للسلطات.

الطراز المعماري
ممن اهتم بالطراز المعماري لقصر الرناد سلمى الدملوجي المهندسة المعمارية المتخصصة في العمارة الإسلامية والعربية، التي بدأت منذ بداية الثمانينيات في دراسة فن العمارة في عدد من مناطق جنوب اليمن كتريم وعدن وشبام ويافع، وهي أول متخصص يضع الخطوات العملية في كيفية الحفاظ على الهوية المعمارية في شبام وتريم، وتحليل الإشكاليات وكيفية الحفاظ عليها.

 عن الوصف والشكل الهندسي للرناد وطرازه المعماري، تشرح الدملوجي في كتابها (وادي حضرموت هندسة العمارة الطينية)، بعد زيارتها العملية البحثية في وادي حضرموت في 1981م بالقول "أطلق على الحصن وقصر السلطان الكثيري السابق منذ الثورة اسم قصر الشعب، أما عمارته فشبيهة بطراز بيوت النخبة في تريم وسيئون مع التشديد على الأبهة، نظراً لمكانته وقوامه المهمين كمركز للسلطة السياسية، والمبنى المشيد برمته بطوب الطين والمؤسس من الحجر يغلب عليه التأثر بالطراز الكولونيالي (عمارة استعمارية) الذي يسود فيه الأداء النيوكلاسيكي الأوروبي.

 هذا الأداء يبدو أكثر وضوحاً على واجهات القصر الخارجية، حيث الأعمدة الدورية الناتئة متجمعة على جدران السور الجانبية، كما يبدو في التزيين الزخرفي للمدخل، حيث واجهة الرواق المعمد، المتوج بقوصرة (مثلث علوي) نهضوية أوروبية، والمتشكل من عدد من الأقواس الرومانسكية نصف الدائرية، مما لم يكن في ما سبق ميزة للعمارة الحضرمية أو الإسلامية، كما أن المخطط الداخلي والنسب وتصميم فضاءات قصر الرناد، يجعله واحداً من أجمل القطع المعمارية والتصميمية، وهذا يتضح على أحسن وجه في تتابع الفضاءات الداخلية، وفي الفصل بين الفضاءات العامة والخاصة، وأخيراً في تتالي الفناءات المفتوحة، وفي سعة الغرف المغلقة التي ترتبط بواسطة سلالم وممرات متنوعة، وجميعها مطلية بالأبيض ومتشكلة برصانة تعبر عن النوعية للتصميم الحضرمي".

آمال للعالمية
المأمول بحسب باحماله، أن يظهر شيء مما هو تحت أنقاض القصر، مثلما أظهرت الأعمال في ثلاثينيات القرن الماضي، تمثال رخامي أبيض به صورة ملاك له أجنحة بين الأنقاض ذات كتابات مسندية، وهو متقن الصنعة والصورة، ويستدل به القائلون بوجود المسيحية في حضرموت قبل الإسلام، وبقي هذا التمثال موجوداً في قصر الرناد في إحدى ردهات القصر في عهد السلطان محمد بن محسن الكثيري.

 وينشد مدير مركز الرناد للتراث والآثار والعمارة، أن يدرج قصر الرناد ضمن قائمة التراث العالمي، لا سيما وأن هناك جهوداً تبذل حالياً من المهتمين بالتراث والتاريخ ومكتب هيئة المدن التاريخية بمدينة تريم ومركز الرناد للتراث والآثار والعمارة، وخلصت إلى وضع ملف شامل لقصر الرناد لإدراجه ضمن موسوعة غينيس للأرقام القياسية، وأن يتحول القصر إلى مركز ثقافي وعلمي ومركز للدراسات التاريخية والسياسية والاجتماعية.

إندبندنت عربية

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى