​قصص من التاريخ

> الحلقة الخامسة

مضى السمرقندي نحو دار الخليفة يتعثر في مشيته، يقدم رجلاً ويؤخر أخرى، تتّقد نار الحماسة في نفسه فيخطو ثم تعصف بها رياح الشك فيقف، وكان يطير به الخيال إلى ملوك بلده فيتصور تلك الحجب على القصور، وأولئك الحجّاب على الأبواب، والسيوف المصلتة والرماح المشرعة، ثم يبصر هذه الدار ... وهذا الذي قالوا إنه أمير المؤمنين، فيزداد به الشك. إنه يعرف السلطان الذي يحكم بالبطش والرعيةَ التي تطيع بالخوف، أما سلطان العدل وطاعة الحب، فشيء لم يعرفه في بلده!

واستقر في نفسه أن الرجل يسخر به، فعدا وراءه حتى لحقه وقال له: ناشدتك الله أيها الرجل، هل هذه الدار هي دار أمير المؤمنين؟
قال: نعم، والله إنها لهي داره! هذه دار الرجل الذي أورثته شريعة القرآن تيجان الملوك الأربعة: كسرى وقيصر وفرعون وخاقان، فكانت هامته أرفع من أن يبلغها تاج منها، فما سمت إليها إلا «العمامة» تاج العرب ... هذه دار الرجل الذي جبيت إليه ثمرات الأرض، فكال الذهب كيلاً وأعطاه لمستحقه باليدين، ومنح الفقراء الجوهر، وقسم في المحتاجين الدرر، وبقي هو وأسرته بغير شيء ... لأن نفسه أكبر من أن يملأها كل ما في الدنيا من ذهب وجوهر، إنها أكبر من الدنيا؛ فلذلك حقرتها وطمحت إلى ما هو أعظم منها: إلى الجنة!

وما هجر الحياة ومناعمها ليأوي إلى غار في جبل فيعتزل الناس، أو إلى مسجد فيناجي الله، إذن لزاد العبّاد واحداً، ولما كان في ذلك حديث يُروى ولا عجب يُؤثَر. ولكنه زهد في الدنيا (وهو رجل الدنيا وواحدها، وإليه أمرها وبيده - بعد القدر - صلاحها وفسادها)، فهو في اللجة لا يبتلّ، وهو «في اللهب ولا يحترق». وهو زاهد ولكنّ في رأسه عقلَ حكيمٍ، وفي صدره قلبَ بطلٍ، وفي فيه لسانَ أديبٍ؛ فهو يدير بعقله هذا الملك الواسع، بقضائه وماليته، وداخليته وخارجيته، وسلمه وحربه، وهو القائد وهو المفتي وهو المعلّم ... أداره أحسن إدارة وأقومها، فاستقر الأمن، ونامت الثورات، وقعد القائمون بالمعارضة، وسكت الناقمون على بني أمية، وتصافى الشيعي والخارجي، والمصري واليماني، والأسود والأحمر، واصطحب في البرية الذئب والحمل ... وهو يواجه بقلبه أحداث الدهر، فترتد عنه الأحداث ارتداد الموج عن صخر الشاطئ، وهو يصوغ ببيانه الحكمة العليا أدباً خالداً ...

سمع - غداة بويع بالخلافة مُكرَهاً - هدّة ارتجَّتْ منها الأرض، وكان منصرفاً من دفن أمير المؤمنين سليمان، فقال: ما هذا؟ قالوا: مراكب الخلافة قربت إليك لتركبها، بالسروج المحلاة بالذهب المرصعة بالجوهر. فقال: ما لي وما لها؟ نحّوها عني وقربوا لي بغلتي. وأمر بها أن تباع ويدخل ثمنها بيت مال المسلمين. فقُربت إليه بغلته فركبها، وجاءه صاحب الشرطة يسير بين يديه بالحربة فقال له: تنحَّ عني، ما لي وما لك؟ إنما أنا رجل من المسلمين!

ومشى بين الناس راكباً على بغلته (بلا موكب ولا حربة ولا راية ولا طبل). الرجل الذي يحكم الأندلس ومرّاكش والجزائر وتونس وطرابلس ومصر والحجاز ونجداً واليمن وسورية وفلسطين والأردن ولبنان والعراق والعجم وأرمينية والأفغان وبخارى والسند وسمرقند ... مشى ومشى الناس بين يديه حتى دخل المسجد، فقام على المنبر فقال: أيها الناس، إني قد ابتُليت بهذا الأمر من غير رأي كان مني فيه، ولا طلب له، ولا مشورة من المسلمين. وإني قد خلعت بيعتي من أعناقكم، فاختاروا لأنفسكم.

فصاح الناس صيحة واحدة: إننا اخترناك ورضينا بك.... تتمة القصة غدا..

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى