​قصص من التاريخ

> الحلقة السادسة

ومشى إلى الخضراء، وما الخضراء؟ جنة الأرض التي حُشر إليها كل ما في الأرض من كنوز وطُرَف، القصر الذي أزرت عظمتُه بالخورنق والسدير وغمدان والإيوان. فأمر بستورها فأنزلت، وببسطها ونمارقها فطُويت، وبطرفها وكنوزها فحملت، وأمر ببيع ذلك كله ووضع ثمنه في بيت المال، وأمَّ داره هذه. فقال الناس: إنه رجل صالح، ولكن الملك له أهل. إن الملك لا يقيمه إلا قوي أمين ابن دنيا.

ظنوه أمّ داره يقبع فيها يسبّح ويهلّل، فإذا به يحد قلمه ويعدّ قراطيسه، ويكتب من فوره بيده إلى أقاليم الأرض منشوراً فيه الدستور الذي لا يقوم إلا به الملك، ويُنفِذ الكتب من ساعته. فعلموا أن خليفتهم زاهد في الدنيا ولكنه ابنها وأبوها.

فَعَل ذلك كله من الصباح إلى الضحى. ثم ذهب يَقيل، فأتاه ابنه عبد الملك فقال: يا أمير المؤمنين، ماذا تريد أن تصنع؟ قال: أي بني، أقيل. قال: تقيل ولا ترد المظالم؟ قال: أي بني، إني قد سهرت البارحة في أمر عمك سليمان، وإني إذا صليت الظهر رددت المظالم. قال: يا أمير المؤمنين، مَن لك أن تعيش إلى الظهر؟ فترك مقيله وخرج فبعث مناديه ينادي: ألا من كانت له مَظلمة فليرفعها، فإني منصفه من نفسي ومن آل بيتي ومن الناس أجمعين. ولقد - والله - فعل أكثر مما قال!

نعم يا أيها الغريب، هذه دار أمير المؤمنين، فلا يغررك صغرها وضيقها وعطل أبوابها من الزخرف وجدرانها وأنه لا حاجب عليها ولا جند ببابها، فإن هذه الدار أكرم من كل قصر حملته على ظهرها هذه الأرض؛ فامش إليها ولا تخف!

فعاد السمرقندي، فلما دنا من الدار سمع ضجة ورأى ولدين قد شج أحدهما الآخر شجة منكرة، ورأى الخليفة يخرج بنفسه فيأخذ الولدين، فيراه فيسأله، فيقول: إني متظلّم يا أمير المؤمنين. فيقول له: مكانَك حتى أعود إليك.

ويدخل بالغلامين، ويسمع السمرقندي صوت امرأة تصرخ: «ابني»، فيعلم أنها أم الوليد المشجوج، وتدخل الدار مُرَيْئة فترى الولد الآخر فتقول: «ابني». ويسمع القصة فيعلم أن ابن أمير المؤمنين قد خرج يلعب مع الغلمان فشجّه ابن هذه المرأة، وتقول المرأة: ارحموه، إنه يتيم فقير! ويرق قلب السمرقندي ويشفق على هذه المرأة أن تُضرب عنق ابنها أمامها وهو طفل لا ذنب له ولا يُسأل عن فعلته، وإذا بأمير المؤمنين يقول لها: أما له من عطاء؟ فتقول: لا. فيقول: سنكتبه في الذرية.

وتخرج المرأة شاكرة داعية، ويسمع السمرقندي فاطمة بنت عبد الملك تقول مُغضَبة: فعل الله به وفعل إن لم يشجه مرة أخرى. فيقول الخليفة: إنكم أفزعتموه.

وخرج الخليفة فدعاه فسأله عن حاله، فشكا إليه قتيبة وأنه دخل سمرقند غدراً من غير دعوة إلى الإسلام ولا منابذة ولا إعلان. فقال الخليفة: والله ما أمرَنا نبيُّنا بالظلم ولا أجازه لنا، وإن الله أوجب علينا العدل في المسلمين وغير المسلمين. يا غلام ... قلماً وقرطاساً.

فجاءه الغلام بورقة قدر أصبعين، فكتب عليها أسطراً وختمها وقال له: خذها إلى عامل البلد! تتمة القصة غدا...

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى