التسول في عدن.. من مواجهة الفقر إلى البحث عن الثراء

> كرم أمان

> ​على امتداد شارع المتحف الحربي وصولًا إلى دوار ”الفل“ وسط الحي التجاري لمدينة عدن القديمة "كريتر" جنوب اليمن، ترتص العشرات من النساء والأطفال على جنباته، للتسول، من المركبات المارة والمتسوقين في نهار رمضان وليله.

وفي منتصف الشارع، كانت امرأة يمنية محجبة، في العقد الخامس من عمرها، وتلتحف جلبابًا، وتغطي وجهها ببرقع مهترئ، وعليه آثار التراب الذي أثارته إطارات السيارات المارة، مع طول فترة وقوفها في ذلك الشارع العتيق، اقتربنا منها قليلًا، في محاولة لتلمس حاجتها والتعرف عن أوضاعها.

عرّفت عن نفسها بـ ”أم. فهمي“، وبعد تطمينها بعدم تصويرها أو التشهير بها إعلاميًا، بدأت بعرض جزء من قصتها والأسباب التي دفعتها للخروج إلى الشارع للتسول.

وقالت إنها ”تسكن في مديرية التواهي، وهي أم لأربع بنات وولدين صغيرين، وزوجها توفي قبل 5 سنوات“.

وأضافت ”أم فهمي“ لـ“إرم نيوز“ أن ”زوجها كان عاملًا في أحد مصانع عدن التي أغلقت إبان حرب 1994، قبل التنقل للعمل في أكثر من شركة، حيث كان يتقاضى 45 ألف ريال وهو آخر راتب له قبل وفاته بحادث سير، في أواخر العام 2016“.

وتابعت: ”بعد وفاة زوجي استلمنا إكرامية من الشركة التي كان يعمل بها بواقع راتب شهرين فقط، وانقطعت بعدها، فيما ما أزال أستلم معاش زوجي التقاعدي حتى اليوم، بواقع 32 ألف ريال، بعد آخر زيادة في رواتب المتقاعدين“.

وأضافت أن ”لديها 4 بنات أكبرهن بعمر 22 عامًا، وطفلين أحدهما في التاسعة من عمره، والأكبر عمره 12 عامًا حاليًا، وكليهما مازالا يدرسان في المرحلة الابتدائية“.

ثم صمتت ”أم فهمي“ قليلًا، وطأطأت رأسها إلى الأرض، قبل أن تقول بعدها: “ هذا هو حالنا يا ابني، كيف لا تريدني أن أقطع كل يوم هذه المسافة من التواهي إلى كريتر لأحصل على ما يسد جوعنا واحتياجاتنا اليومية“.

وتابعت: ”أعمل بعيدًا عن المنطقة التي أسكن فيها، حتى لا يعرفني أحد، ولا أتسبب بأي إحراج لبناتي وولدي، لأنهم يعلمون أنني أعمل في أحد منازل كريتر“.

أسباب التسول

تختنق مدينة عدن جنوب اليمن، بمئات بل آلاف المتسولين اليمنيين، وآخرين من الأفارقة، والمهاجرين العرب، خاصة خلال شهر رمضان، الذي تزداد فيه انتشار هذه الظاهرة وبأعداد كبيرة جدًا.

وترى المحامية اليمنية هدى الصراري، رئيسة مؤسسة دفاع للحقوق والحريات، أن ”من أهم أسباب ظاهرة التسول هو تفاقم حدة الفقر، وتدهور الوضع الاقتصادي في اليمن خاصة، خلال سنوات الحرب“.

وتضيف الصراري لـ“إرم نيوز“: ”هذه الظاهرة ليست وليدة اليوم، فهي منتشرة منذ قبل الحرب، لكنها ارتفعت بشكل كبير مؤخرًا لأسباب عدة“.

وعدّدت هذه الأسباب بأنها ”نتيحة التدهور الكبير للوضع المعيشي للمواطن، واختفاء الطبقة المتوسطة، وتوقف الرواتب لدى معظم موظفي قطاع الدولة بالذات الأمني والعسكري، وتدهور سعر الريال مقابل العملة، وتفشي اقتصاد الحرب، وتعطل معظم مؤسسات الدولة“.

وتابعت: ”بالإضافة إلى الأسباب الجنائية التي تكمن في قضية الإتجار بالبشر والعمل عبر عصابات تجنّد أطفالًا ونساء، وتقوم بإطلاقهم في أماكن مختلفة في شوارع مديريات عدن، وأغلب المتسولين الأطفال قادمون من محافظات خارج مدينة عدن، ويأتون عبر متجرين للتسول في عدن“.

بدورها، ترى الصحفية اليمنية المتخصصة بالأوضاع الاجتماعية، أمل عياش، أن ”تزايد أعداد المتسولين في محافظة عدن، يعود لعدة أسباب، منها داخلية وأخرى خارجية“.

وتقول عياش لـ“إرم نيوز“ أن ”الأسباب الداخلية تتمثل في استقبال  عدن لأعداد كبيرة من النازحين اليها، القادمين من مختلف المحافظات خاصة بعد أن شهدت المدينة استقرارًا أمنيًا صاحبته حركة اقتصادية جيدة“.

وتضيف: ”كما أن عدن أصبحت عاصمة اليمن، وهذا جعلها مقصدًا للكثير من الناس من مختلف الفئات، من بينهم البسطاء والمعدمون، بالإضافة إلى تدهور الوضع الاقتصادي في البلد بشكل عام، وارتفاع الأسعار، وانهيار العملة“.

وتردف أن ”هذا كله انعكس سلبًا على قدرات الكثير من الأسر اليمنية على توفير أبسط الاحتياجات الأساسية للحياة، ما دفع الكثير منها إلى التسول لتوفير ما يسد رمقهم“.

وتشير إلى أن ”الأسباب الخارجية تتمثل في أن عدن أصبحت وجهة للمهاجرين الأفارقة غير الشرعيين، وهؤلاء الكثير منهم يمتهن التسول في الشوارع، وهذا ما ساهم بتفاقم ظاهرة التسول، وانتشار الجريمة بشكل كبير“.

التسول مهنة للثراء

من جهته، يرى الكاتب والصحفي اليمني صالح أبو عوذل، أنه ”ليس كل من يتسول يعد باحثًا عن طعام“، لافتًا إلى أن ”بعضهم اتخذ التسول كمهنة للثراء والكسب السهل غير المشروع“.

ويقول أبو عوذل لـ“إرم نيوز“ إن ”ظاهرة التسول لا تعني أن جميع المتسولين يبحثون عن ”طعام“، ونحوه، والتسول صار عملية احترافية لتحقيق الثراء“.

وتابع: ”لذلك نلاحظ أن الأطفال الذين يتسولون في عدن ينتمون إلى محافظات في أقصى اليمن الشمالي، كحجة، وصعدة، والمحويت، وتهامة، بالإضافة إلى تعز، وينتشرون في عدن بصورة منتظمة، وتحصل عملية تبادل في مناطق التمركز من مكان إلى آخر“.

وأضاف: ”يستخدم المتسولون أدوات تنظيف، وينتشرون قرب الأماكن التي تشهد ازدحامًا، ولا يستطيع أحد أن يفلت منهم، يبدو أنهم متدربون بشكل جيد على كيفية إقناع المواطن على دفع أموال لهم ولو كان في أمس الحاجة“.

وتتفق الصحفية أمل عياش، مع ذلك أيضًا، حيث ترى أن ”هناك من اتخذ التسول كمهنة، مستعينًا بعدة طرق ملتوية لاستعطاف الناس وجمع الأموال، باعتبارها أسهل طريق للحصول على المال دون بذل أي جهد، وهذا لا يحدث في عدن فقط، بل في معظم المدن اليمنية وحتى العربية“.

المخاطر المترتبة

وعن مخاطر التسول غير المنظم، على المجتمع في عدن، تقول أمل عياش إن ”انتشار ظاهرة التسول مع وجود المهاجرين الأفارقة ساهم بوجود بعض المخاطر خاصة في الأسواق مثل انتشار السرقة، والابتزاز من خلال اختلاق المشاكل مع الآخرين بهدف الحصول على المال“.

بينما ترى المحامية هدى الصراري أن ”الأمر الذي ساعد في تنامي ظاهرة التسول هو غياب أجهزة إنفاذ القانون التي تضبط وتراقب مثل هذه الظواهر المخلة بالمظهر العام لمدينة عدن“.

”بالإضافة الى تهديدها للسلم الاجتماعي نتيجة تعرض المتسولين من الفئات الهشة (الأطفال والنساء)، وغياب آليات الحماية والرعاية النفسية، وإعادة التأهيل، تظل هذه الفئات تتعرض للانتهاكات المستمرة وتكون عامل مهدد للمجتمع“، وفق الصراري.

وتابعت: ”بالإضافة إلى ضعف العقوبات الرادعة في القوانين اليمنية ساعدت في استمرار هذه الظاهرة وتفاقمها وانتشارها بشكل لافت للنظر، الأمر الذي أدى لبروز أيضًا ظواهر مخلة أخرى كتأثير مباشر لهذه الظاهرة منها: السرقة، والإتجار بالبشر، والإتجار بالمواد المخدرة، والاغتصابات، وغيرها من الانتهاكات“.

واختتمت الصراري قائلة إن ”من الأسباب الأكثر أهمية انعدام التوعية المجتمعية بهذه الظواهر، وغياب التكافل الاجتماعي، وغياب المساعدات الإنسانية، والقصور في إيصالها للمستهدفين، وغياب البرامج والمشاريع الذي تحتاجها المجتمعات الأكثر فقرًا كالتمكين الاقتصادي الذي يغيب عادة في خطط الاستجابة الإنسانية لدى المنظمات الدولية العاملة في اليمن“.

كذلك، يرى الصحفي صالح أبو عوذل أن ”هناك مخاطر عديدة لظاهرة التسول التي يصفها في المخيفة في عدن“.

ويتابع: ”بعض المتسولين باتوا مؤخرًا يتنقلون بين الأحياء ويدخلون المنازل، وهناك عملية سرقة حدثت في أكثر من منطقة كان آخرها تعرض صديق لعملية سرقة لمنزله في كريتر بعد أن كان يتردد عليه متسولون بشكل يومي وحين ذهب للمستشفى تعرض منزله للسرقة، فقد باتت ظاهرة التسول في عدن مخيفة بكل تأكيد لأنها في ازدياد مستمر دون أي معالجات تذكر“.

وعن تاريخ ظاهرة التسول في عدن، يرى أبو عوذل أنه ”بالنظر إلى ظاهرة التسول في عدن، أو في مدن الجنوب بشكل عام، لم تكن موجودة، ربما كانت عدن (كدولة) تمتلك إستراتيجية اقتصادية في عدد السكان، لكن بعد الوحدة 1990 قضت الحرب على كل شيء، وتزايدت بعد 1994“.

بالمقابل، يرى المحلل والباحث السياسي والاجتماعي اليمني، عبدالملك اليوسفي، في حديث لـ“إرم نيوز“، أنه ”لا يمكن الحديث في الوقت الحالي عن مخاطر ظاهرة التسول أو طريقة تنظيمها“، مبررًا ذلك بمرور اليمن بشكل عام، بظروف وأوضاع استثنائية، جراء الحرب وما أفرزته من طبقة من المعدومين تمامًا، نتيجة التدهور والانهيار الاقتصادي للبلد.

ويقول اليوسفي: ”هذه الأوضاع ربما دفعت الكثير من الناس للتسول من أجل الحفاظ على بقاءهم على قيد الحياة، ونلتمس لهم ألف عذر، وبالتالي لا يمكن تقييم ظاهرة التسول في مجتمعنا اليمني حاليًا، ومقارنته بباقي المجتمعات العربية التي تشهد استقرارًا سياسيًا، واقتصاديًا، واجتماعيًا“.

تقصير لدى المنظمات

ويضيف: ”ظاهرة التسول في عدن واليمن بشكل عام، هي ظاهرة تعكس حجم المعاناة الكبيرة، كما تعكس حجم التقصير من قبل المنظمات الدولية والمحلية وذات العلاقة بإيصال المساعدات الإغاثية للمحتاجين، فهناك مبالغ طائلة تصرف على منظمات الأمم المتحدة ووكالات الإغاثة تصل إلى قرابة 4.3 مليار دولار المقدمة لليمن خلال عامي 2021 و 2022“.

ويوضح أن ”التساؤلات يجب أن تركز على أين تذهب تلك المبالغ الطائلة، ولماذا لا توجه إلى المحتاجين ومساعدة الأشد فقرًا، لا أن نتحدث عن مخاطر ظاهرة التسول والتهديدات التي تشكلها، فمازلت أؤكد أن استفحال ظاهرة التسول هو نتاج طبيعي للاوضاع غير الاعتيادية التي تشهدها البلد، وهي تؤكد على وجود تقصير كبير في عمل منظمات ووكالات الإغاثة، وعدم تمكنها من إيصال المساعدات للمحتاجين لها“.

المعالجات المطلوبة

وبشأن الحلول والمعالجات المطلوبة للحد من ظاهرة التسول أو على الأقل تنظيمها، ترى الصحفية أمل عياش أنه ”لابد من إجراء دراسات حقيقية لمعرفة الأسباب الحقيقية للتسول، ومن ثم العمل على معالجة الأسباب، لأن أي إجراء عشوائي غير مبني على دراسات اجتماعية ميدانية حقيقية لن يساعد على الحد من الظاهرة مهما كان الإجراء شديد أو حازم“.

واختتمت حديثها: ”بشكل عام الغالبية من المتسولين هم ممن يبحثون عن لقمة عيش، لذا يفترض على الجهات المعنية، مثل: الشؤون الاجتماعية، والعمل والمنظمات، والمؤسسات، وأصحاب الشأن، العمل على توفير فرص عمل للقادرين، وأيضًا تأهيل الشباب من خلال ورش عمل ودورات، وتشجيعهم، ودعمهم من أجل إنشاء مشاريع صغيرة تتمكن من سد احتياجاتهم“.

من جانبه، يرى الصحفي أبو عوذل أنه ”لابد أن يتم نقل هؤلاء المتسولين إلى أماكن إيواء خاصة ويخضعوا لعملية إشراف مباشرة، ويجري التحقيق معهم لمعرفة إذا كانوا يعملون لصالح جهات تعمل على تجارة التسول، وبهذه تكون معالجة المشكلة جذرية، بالإضافة إلى ضرورة توفير مصادر دخل لبعض المتسولين، خاصة إذا كانت هناك نية أن تكون عدن عاصمة، فمعالجة مشكلة التسول أعتقد أنها أولوية“.

ويبين: ”لا يمكن اتهام أي جهة تقف خلف عملية التسول المنظمة في عدن، بإمكان السلطات نقل المتسولين إلى مكان إيواء ومن ثم البدء في التحقيق معهم، وبكل تأكيد ستصل إلى نتيجة“.

ويتابع: ”نحن نشاهد أخبارًا تأتي من الأقليم أو من العالم تتحدث عن العثور على متسول بحوزته الملايين، وبكل تأكيد ما يحصل في عدن، لا يمكن اعتبار أن جميع المتسولين فقراء ويريدون الإعاشة“.

ويختتم حديثه قائلًا: الكثير من المتسولين في الطرقات منذ سنوات طويلة، ودخلهم اليومي يصل إلى أرقام كبيرة، بالإضافة أنه سبق أن أعلنت الأجهزة في عدن عن ضبط عصابة تمتهن التسول لتنفيذ جرائم، ومنها الإتجار بالبشر، والمخدرات، وغيرها“.

إرم نيوز

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى