كلام عن الحالمة تعز ورجالها

أجدني ملزما بتعقب خواطر وذكريات وتاريخ عن الحالمة تعز، ساهم ببعثها في نفسي منشور قرأته للأخ د. ياسين سعيد نعمان بعنوان: (ماذا قدمت تعز للوطن الأم) استهله بحديث ممتع عن عبدالله عبدالوهاب نعمان صاحب القامتين السامقتين الشعر والنضال الوطني، فهو من أسرة (النعمان) وجل رجالها ممن شاركوا في صنع الأحداث التاريخية الوطنية وعلى رأسهم خطيب اليمن المفوه وزعيم الأحرار اليمنيين الأستاذ أحمد محمد نعمان ونجله محمد الذي كان بحق فلتة زمانه، كان وزيرًا للخارجية اليمنية واستشهد غيلة في بيروت مطلع السبعينيات الماضية في ملابسات معقدة وغامضة، وعندما اتصل الرئيس اللبناني سليمان فرنجية -على ما أظن- معزيًا الأستاذ النعمان قائلا: أعزيك باستشهاد ابنك محمد، فرد عليه الأستاذ بتلقائية: أعزيك بلبنان، ولم تمر أوقات طويلة إلا وتفجرت الحرب الأهلية المريرة في هذا البلد العربي.

يذكر الكاتب المصري الكبير أنيس منصور في كتابه (اليمن ذلك المجهول) قصة الأستاذ أحمد النعمان عند عودته من القاهرة إلى تعز، حيث سأله الإمام أحمد في مقامه العالي وقت المقيل: هل قابلت طه حسين؟ فأجابه النعمان: أعوذ بالله لم أقابله.

وفي منتصف الليل استيقظ النعمان وأهل بيته وربما أهل الحارة على طرق عنيف على بابه، كان (عكفي) الإمام يدعوه لمقابلة الجناب العالي في الحال. ودع النعمان من في البيت متوجسا من هذا الاستدعاء الإمامي ومثل بين يدي الإمام الذي مازال على وضعيته التي تركه عليها النعمان يمضغ القات لوحده.

سأله الإمام: ولماذا لم تقابل طه حسين؟

فرد النعمان: لأنه كافر. اعتدل الإمام قليلا في مجلسه وتمتم: عد إلى بيتك يا أحمد.

عاد النعمان إلى أهله ونام، ولكن العكفي عاد ليطرق الباب بذاك العنف ليقول له إن الإمام يطلبه الآن في المقام العالي. ودع النعمان أهل بيته وداع اللاعودة هذه المرة، ودخل على الإمام الذي كان على وضعيته السابقة حيث بادره قائلا: وكيف عرفت يا أحمد أن طه حسين كافر وأنت لم تقرأ له؟

رد النعمان النابه: مولاي لا يحب الكافرين وطالما أنه لا يحب طه حسين فهو منهم.

انبسطت أسارير الإمام وأشار بيده: اذهب يا أحمد بارك الله فيك.

عاد النعمان إلى بيته وظل مستيقظًا حتى الصباح في انتظار العكفي، بينما الإمام لفظ ما في فمه من قات ونام.

وكثير من مثل هذه الحكايات في كتاب أنيس منصور، ومثلها أيضًا في كتاب (رياح التغيير في اليمن) للأستاذ الأديب الكبير أحمد الشامي زميل النعمان ورفيقه في حركة الأحرار وفي السجن الرهيب في قاهر حجة بعد فشل ثورة الدستور عام 1948م.

فلت الرجلان من سيف الجلاد بأعجوبة ثم ما لبثا أن أدخلا العطف في قلب الإمام أحمد من خلال رسائلهما إليه فأفرج عنهما وهو بأمس الحاجة إليهما في معركته مع سيوف الإسلام إخوانه من أجل تثبيت ولاية العهد لابنه محمد البدر.

ظل النعمان إلى جانب الإمام ولعب والشامي دورا في إفشال انقلاب 1955م بقيادة الثلايا، لكن النعمان أفلت في ما بعد إلى مصر ليلتحق بزميله الزبيري بينما ظل الشامي وفيًا للنظام إلى ما بعد الثورة، وكان على رأس وفد الملكيين للتفاوض على السلام مع الجمهوريين في السعودية عام 1970م حين التقى برئيس وفد الجمهوريين زميله أحمد النعمان، وحين تقابلا تعانقا وأجهشا بالبكاء والنعمان يردد:

وقد يلتقي (الشقيقان) بعد ما

يظنان كل الظن أن لا تلاقيا

ولم يسع الفريق مرتجي رئيس الوفد المصري إلا أن يقول:

آمال تقاتلوا على ايه يا أولاد....

تبوأ الشامي والنعمان عضوية مجلس الرئاسة الذي يقوده القاضي عبدالرحمن الإرياني.

أما عبدالله عبدالوهاب نعمان وهو سليل هذه الأسرة العريقة فلم يسلم رأس أبيه عبدالوهاب من سيف الجلاد في حجة غداة فشل الثورة الدستورية، فتابع خطى أبيه من عدن لمقاومة نظام الحكم فأصدر جريدة (الفضول) التي اعتمدت أسلوبه الساخر في الكتابة وتكنى هو أو هي بهذا اللقب (الفضول)، ظهر مانشيت في أحد أعدادها بعنوان مثير: انقلاب عسكري في اليمن، وجاء في التفاصيل: إن عسكريا سقط من على حماره في عقبة مفرح في تعز.

وبعد الاعتداء عليه من أزلام الإمام بعدن كتب من المستشفى مع صورة له والشاش الأبيض يغطي رأسه:

بالأمس كنت مواطنا عاديا وبفضل مولانا الإمام أصبحت ملكا متوجا.

ويحدث في بداية السبعينيات والنعمان أحمد في منصبه الرفيع في صنعاء أن يخرج به ابن عمه الفضول في جولة عصرية في صنعاء، كان الأستاذ في الخلف وعبدالوهاب يقود السيارة حين قرب النعمان الكبير رأسه مخاطبًا ابن عمه:

- تعرف يا عبدالله جاء اليوم الذي أراك تسوق بي وأنا في الخلف.

أجابه الفضول على الفور:

- تعرف يا ابن عمي الإنجليز يخرجوا كلابهم في الخلف كل ليلة لتشميتهم في شوارع لندن.

عبدالله عبدالوهاب نعمان الكاتب الساخر وشاعر العاطفة الأول في تعز والمناضل الكبير الذي يردد بعده الناس (رددي أيتها الدنيا نشيدي) عندما قلده الرئيس علي ناصر محمد وسام الثقافة والإبداع (بهذا المعنى وليس حرفيا) التفت إلى القرشي عبدالرحيم سلام وهمس في أذنه: (بايجيب لنا - يقصد الوسام - حق شكل قات).

أما حكايته مع عبدالله الكرشمي رئيس الوزراء فقد أوردها د. ياسين سعيد نعمان هكذا: احتدم خلاف حاد حول شق طريق التربة - تعز فوزير الإعلام النعمان أصر على إنشاء الطريق ورئيس الوزراء رفض بشدة إلى أن قال للنعمان: (إذا شقيت الطريق جزمتك في وجهي) فتوجه النعمان وبثقل أسرته المشيخي والسياسي والنضالي، وشق الطريق، وبعدها أرسل فردة حذائه داخل ظرف إلى رئيس الوزراء الكرشمي وكتب عليه: لقد أوفيت بوعدي، فأوف بوعدك وعلى إثرها وجه الكرشمي بمنع النعمان من دخول الاجتماع الأسبوعي لمجلس الوزراء، فتوجه النعمان إلى الباب المقابل "إذاعة صنعاء" ووجه نداء مباشرًا: إليكم بيان هام يلقيه وزير الإعلام عبدالله عبدالوهاب نعمان فيما يلي نصه: (قدمت حكومة المهندس عبدالله الكرشمي اليوم استقالتها إلى فخامة رئيس الجمهورية القاضي عبدالرحمن الإرياني)، وبهذا أطاح النعمان بحكومة الكرشمي بعد ستة أشهر من تشكيلها.

ربما للحديث بقية، فالحديث عن الحالمة تعز ورجالها يبدأ ولا ينتهي.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى