​وقفات تأملية

> البرزخ بين البحرين والحجر المحجور

آيتان في القرآنِ الكريمِ، واحدةٌ في سورةِ الرحمنِ، والثانيةُ في سورةِ الفرقانِ، الأولى قولُه سبحانه: ((مَرَجَ البحرين يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ * فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)) [الرحمن: 19-21] .

لقد حارَ العلماءُ في تفسيرِ هذا البرزخِ، أين هو؟ أهو بين البحرِ الأحمرِ والبحرِ الهندي؟ أم بين البحرِ الأبيضِ والبحرِ الأسودِ؟ أم بين البحرِ الأبيضِ والمحيط الأطلسيّ، عند جبلِ طارقٍ، أين هذا البرزخُ؟ ((مَرَجَ البحرين يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ * فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)) [الرحمن: 19-21] .

الشيءُ الذي يَلفِتُ النظرَ أن لكلِّ بحرٍ درجةَ ملوحةٍ ثابتةً، لا تنقصُ، ولا تزيدُ، مع أنّ البحرينِ متصلان، وله كثافةٌ لا تنقص ولا تزيد، وله حرارةٌ لا تنقص ولا تزيد، وله لونٌ لا يتغيَّر، فلو ركبَ الإنسانُ طائرةً، وحلَّقتْ به في الجوِّ، فوق بابِ المَنْدَبِ، أو فوق البوسفور، أو فوق مضيقِ جبلِ طارقٍ لَرَأَى أنّ هذا البحرَ شيءٌ، وذاك شيءٌ آخرُ.

لقد وجَدَ علماءُ البحارِ أنّ ذراتِ الماءِ في البحرِ الأحمرِ إذا وصلتْ في أثناءِ حركتها إلى خطٍّ وهميٍّ عند بابِ المندب تعودُ إلى البحرِ الأحمرِ، وأنّ ذراتِ المحيطِ الهندي إذا اتجهت إلى البحرِ الأحمرِ تنخفضُ نحو الأسفلِ عندَ هذا البرزخِ، وتعاودُ الكَرَّةَ نحو المحيط الهندي، فلا يطغى المحيطُ الهنديُّ على البحرِ الأحمرِ، وأنّ البحرَ الأحمرَ لا يختلطُ بالمحيطِ الهندي، لأن: {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ} [الرحمن: 20] ، ولكلٍ منهما كثافةٌ، وحرارةٌ، ومُلوحةٌ، لا تزيدُ، ولا تنقصُ، كذلك البحرُ الأبيضُ، مع البحرِ الأسودِ، والبحرُ الأبيضُ مع المحيطِ الأطلسيّ.

قال تعالى: ((مَرَجَ البحرين يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ)) ، لكنّ هذا البرزخَ ليس جداراً، إنه مرنٌ، وهذا الالتقاءُ المذكورُ في الآية: ((مَرَجَ البحرين يَلْتَقِيَانِ)) ، يكون على شكلِ تماوُجٍ.

أما الآيةُ الثانيةُ التي في سورةِ الفرقانِ ففيها شيءٌ آخر: ((وَهُوَ الذي مَرَجَ البحرين هاذا عَذْبٌ فُرَاتٌ وهاذا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَّحْجُوراً)) [الفرقان: 53] .

إنّ بين البحرين؛ العذبِ والمالحِ؛ برزخاً وحِجراً محجوراً، حيث تزيد غزارَةُ بعضِ أنهارِ أمريكا على ثلاثمئة ألف مترٍ مكعبٍ في الثانيةِ، وتَصُبُّ في المحيط الأطلسيّ، ويمتدُ مسيرُها في البحرِ ثمانينَ كيلو متراً، هذا الماءُ العذبُ يسيرُ داخلَ الماءِ المالحِ، ومعَ ذلك لا يختلطانِ، ولا يتمازجانِ، لأنَّ: ((بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ))، فهناك بين الماءِ العذبِ، والماءِ المالحِ حجرٌ محجورٌ، والحجرُ المحجورُ يعني أنّ معظمَ أسماكِ المياهِ العذبةِ لا تدخلُ في المياهِ المالحةِ، وأسماكَ المياهِ المالحةِ لا تدخلُ في المياهِ العذبةِ، ففي الحِجر المحجور حَجْرٌ على هذه الأسماكِ مِنْ أنْ تنتقلَ إلى الماءِ المالحِ، وحَجرٌ على تلك الأسماكِ أنْ تنتقلَ إلى الماءِ العذبِ، بينهما برزخٌ، وحجرٌ محجورٌ: ((وَهُوَ الذي مَرَجَ البحرين هاذا عَذْبٌ فُرَاتٌ وهاذا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَّحْجُوراً)) .

هذا مِن آياتِ اللهِ الدالةِ على عظمتِه، أي إنّ البحارَ لا تختلط، مع أنها متصلةٌ، فهل تستطيعُ أنْ تضعَ في وعاءٍ كأساً من الماءِ المالح، وكأساً من الماءِ العذبِ ولا يختلطان؟ هل تستطيع أن تفصلَهما بعد ذلك؟ هل لك أنْ تشربَ القِسْمَ العذبَ من هذا الوعاءِ؟ هذا شيءٌ فوقَ طاقةِ الإنسانِ: ((مَرَجَ البحرين يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ * فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)) [الرحمن: 19-21] .

حينما اطَّلع بعضُ هؤلاء العلماءِ، وهم في نشوةِ اكتشافِهم هذا، على أنَّ في القرآنِ الكريمِ إشارةً إلى هذا الكشفِ العلميِّ، وهي قوله تعالى: ((مَرَجَ البحرين يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ * فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)) ، أخذَتْهم الدهشةُ، وقد اكتشفوا أيضاً أنَّ بين البحرين الملحِ الأجاج، والعذب الفراتِ شيئين.. حاجزاً يمنعُ مياهَ كلِّ بحرٍ أنْ تطغى على الآخرِ، كما هو بين البحرين المالحين، وحاجزاً يمنع أسماكَ المياهِ العذبةِ أنْ تنتقلَ إلى المياهِ المالحةِ، ويمنع أسماكَ المياهِ المالحةِ أنْ تنتقلَ إلى المياهِ العذبةِ، فلا يبغي بحرٌ على بحرٍ، بل يحافظُ كلُّ بحرٍ على كثافةِ مياههِ، ودرجةِ ملوحتِه، ومكوِّناتِه، وهذا الحاجزُ بين البحرين ليس ثابتاً، بل هو متحركٌ بفعلِ الرياحِ، وحركةِ المدِّ والجزْرِ، وقد أشارَ القرآنُ الكريمُ إلى هذا الكشفِ العلميِّ الثاني، فسمّى الحاجزَ الأولَ برزخاً، وسمّى الحاجزَ الثانيَ حِجراً، فقال تعالى: ((وَهُوَ الذي مَرَجَ البحرين هاذا عَذْبٌ فُرَاتٌ وهاذا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَّحْجُوراً)) .

أمَّا طبيعةُ هذين الحاجزين فما تزال موضعَ دراسةٍ.

قال الطبري: "وإنما عرَفْنا قدْرتَه بحجزِه هذا الملحَ الأجاجَ عن إفسادِ هذا العذب الفراتِ مع اختلاطِ كلِّ واحدٍ منهما بصاحِبه.

فأمّا إذا كان كلُّ واحدٍ منهما في حيّزٍ عن حيّزِ صاحِبه فليس هناك حرجٌ، ولا هناك من أعجوبةٍ ما ينبّه عليه أهلُ الجهلِ به من الناسِ ويذكرون به، وإنْ كان كلُّ ما ابتدعه ربُّنا عجيباً، وفيه أعظمُ العِبَرِ والمواعظِ والحُجَحِ البوالِغ".

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى