الدولة الحلقة الضائعة في أزمة اليمن ومعضلات الحلول خارج المنطق

> يولي العالم والإقليم اهتمامًا بالغًا بالأزمة اليمنية، وانخرط منذ البداية في معالجتها وكما أن عددًا من الدول عينت مبعوثين خاصين لها إضافة إلى مبعوثي الأمين العام للأمم المتحدة، ولا أعتقد على طول الفترة وهذا الكم من المبعوثين لم يفطنوا أين تكمن المشكلة وأين مفتاح الحل، فالدولة هي الحلقة الضائعة في اليمن منذ أن سقطت الإمامة من الحكم بانقلاب سبتمبر وجاءت الجمهورية لم تستطع أن تخضع القبائل لإدارتها، وبعد ثمان سنوات حرب أهلية اتفق المتصارعون على أن يتقاسموا السلطة وإقصاء عائلة آل حميد الدين، ونتج عن ذلك تحالف القبيلة مع الطوائف الدينية لإدارة الجمهورية بالإرث القبلي الضارب في القدم ذات المرجعية الدينية المركبة، فالقبيلة هي التي خرجت من حرب الثمان سنوات منتصرة (62 - 70) يؤازرها ممثلو الطوائف الدينية التي يمنحونهم الغطاء الديني لأفعالهم عبر إصدار الفتاوى عند الضرورة لإخضاع عامة الناس لإرادتهم.

المحاولة الجادة لبناء دولة في شمال اليمن كانت من قبل الرئيس الحمدي، لكن لم يكتب لها النجاح بسبب قتله بطريقة بشعة قبل يوم من زيارته لعدن وبعدها تم تكريس نظام الغلبة فيه للقبيلة التي تختزن أسوأ ما فيها من ثارات وعادات بآلية وعدم قبول سلطة الدولة المدنية، وفي وقت لاحق وتماشيًا مع ما كان يجري في الجنوب وخاصة بعد توقيع اتفاق الكويت في مارس من عام 79م وفي بداية الثمانينات من القرن الماضي، تم إنشاء المؤتمر الشعبي العام كمظلة سياسية لذلك التحالف وانخرطت فيه قوى مختلفة تلتقي معهم أو تشاركهم نفس الاتجاه، ومع ذلك لم يتغير شيء على الإطلاق، بل زاد من دور مبالغ فيه للقبيلة أكبر مما تستحق، وإضافة إلى سيطرتها على السلطة تم إحكام سيطرتها على المقدرات الاقتصادية للبلاد وسخرتها ليس من أجل التنمية، بل تحولت إلى جيوب ممثلي ذلك التحالف، وحتى تم تحجيم البيوتات التجارية المعروفة عبر استخدام نفوذهم في السلطة وتحول أقطاب السلطة بين ليلة وضحاها إلى تجار كبار يسيطرون على أفرع التجارة، وأن تقارير المنظمات الدولية تشير إلى أن المساعدات والقروض التي تقدم للبلاد لم تذهب إلى مكانها الصحيح، وإنما تذهب إلى جيوب المتنفذين وتستقر في المصارف الدولية.

الطريق إلى بناء دولة مدنية دولة النظام والقانون دولة المؤسسات في هضبة صنعاء ما زال طويلًا ومعقدًا، وخلال العقود الستة الماضية فشلت، بل تعثرت كل محاولات البناء والشواهد على ذلك كثيرة ومتعددة ومن أهمها سيطرة ذلك التحالف على السلطة التي كبحت كل محاولات التغيير وكذا ظروف التخلف كانت أقوى من كل المحاولات التي اصطدمت بحاجز الصد الكبير المتمثل بالنزعة القبلية المتلبسة بالدين مجتمعة ومتحالفة واستمدت مرجعيتها من آلية نظام الحكم الإمامي المتخلف وظلت متمسكة في العادات والأعراف والتقاليد البالية الممتدة إلى القرون الوسطى ولم تأخذ من المدنية إلا ما يناسب مصالحها ويخدم توجهاتها، وخلال تلك العقود كانت تزرع الفتن الداخلية وتقفز من أزمة إلى أخرى ومن حرب إلى حرب أخرى، وتعتقد أن هذه هي أمثل الطرق للاستمرار في الحكم وإدارة البلد ساعدها في ذلك العامل الإقليمي والدولي الذي كان يعتبر أحد الركائز الأساسية الذي أمدها بأكسير الحياة للاستمرار بهذه الوضعية من خلال الدعم الذي قدم لها تحت ذرائع مختلفة، وكان هناك تخادم بينهما وخاصة في ظروف الحرب الباردة التي سخرت لوأد أي تحديث أو إصلاح بنيوي في إدارة الدولة اليمنية واستمر الوضع حتى بعد انتهاء الحرب الباردة.

دخلت دولة الجنوب في وحدة مع نظام صنعاء على أمل أن يحدث تغيير جذري في إدارة الدولة وتحديث آليات عمل المؤسسات وتحقيق العدالة والديمقراطية وإبعاد هيمنة الأعراف والتقاليد القبلية والدينية المعيقة لمسار الدولة المدنية وتعزيز المواطنة المتساوية أمام النظام والقانون وإلغاء التمايز بين الطبقات باعتبار أعراف القبيلة وتقاليدها البالية لا يلتقي مع خط بناء الدولة المدنية وإنما يسيران في خطين لا يلتقيان على الإطلاق ومن الصعب التوفيق بينهما ومع الأسف لم يتغير النهج السابق للحكم في صنعاء، وعملوا منذ اليوم الأول للوحدة على توزيع الأدوار فيما بينهما بهدف احتواء الإنجاز الوحدوي وتسخيره ليسير وفق النهج المرسوم من قبلهم، وتم إنشاء فرع حزب الإخوان المسلمين في اليمن تحت مسمى حزب التجمع اليمني للإصلاح وأسندت إليه مهمة معارضة كل ما اتفق عليه بتشجيع وتنسيق مع المؤتمر الشعبي العام (العودة إلى مذكرات الشيخ عبدالله الأحمر)، وأصبح الخلاف الأساسي بين الجنوب والشمال حول بناء الدولة، ومع الأسف سار تطور الأحداث نحو شن حرب على الجنوب لإخضاعه وإلغاء الشراكة بين الجنوب والشمال وكان بالإمكان تلافي هذه الحرب لو وجدت دولة محترمة ولديها مؤسسات ديمقراطية وكل المسائل المختلف حولها فيما يتعلق ببناء الدولة يمكن حلها عبر المؤسسات القانونية.

بعد احتلال الجنوب كان أول عمل قام به ذلك التحالف هو تشليح مؤسسات الدولة الجنوبية، وسّرح عشرات الآلاف من الموظفين العسكريين والمدنيين وبسط آلية وإدارة نظام الجمهورية العربية اليمنية على كامل الجنوب، وتم انتزاع ملكيات الدولة الجنوبية والملكيات الخاصة من الجنوبيين وتوزيعها على أمراء الحرب الذين اشتركوا بالغزو، وتم تقسيم البحر إلى قطاعات وتوزيعه ولم تسلم القطاعات النفطية أيضًا وتم توزيعها دون خجل باعتبار أنهم مالكو الأرض بما فيها ولا توجد أي سلطة في العالم تحول ثروات البلد إلى ملكيات شخصية ينتفع فيها عدد محدود من المتنفذين غير في اليمن وهذه التصرفات تؤكد على غياب دولة المؤسسات تمامًا.

فشلت الوحدة لأن دولة الجنوب لم تجد أمامها شريكًا محترمًا ودولة في صنعاء تتوحد معها، وإنما وجدت نفسها واقعة في الثقب الأسود وأخذت على حين غرة وتحولت إلى أشلاء، لكنها ما زالت محفورة في ذاكرة الجنوبيين يتطلعون إلى اليوم الذي يستعيدون فيه كرامتهم.

لم يستطع التحالف الحاكم الذي غزا الجنوب أن يصمد ولكنه تبعثر وانفجر من داخله بسبب التخمة ولم يستطع هضم اللقمة الجنوبية التي حنبت في حنجرة النظام وتحول إلى صدامات على السلطة والثروة، وكاد الوضع أن يخرج عن السيطرة، ولكي يتم الحفاظ على ما هو موجود تدخل الأشقاء في دول الخليج لردم الهوة بين أطراف الحكم في صنعاء، ووضعت المبادرة الخليجية التي عبرها تم نقل السلطة من فريق إلى آخر وتولت الأمم المتحدة الإشراف على حوار وطني وأنتجت مخرجات ومن أهمها النية في بناء الدولة اليمنية القادمة، لكن كانت تلك القشة التي قصمت ظهر البعير كما يقولون؛ لأن تلك المخرجات إن تم تمريرها ستفقدهم السيطرة الكاملة على السلطة والثروة، لذا لم تقبلها الأطراف المتنازعة على السلطة والطرف الجديد القادم من مران الذي يحمل مشروعه الخاص الذي وجدها فرصه لتحقيق اختراق قوي على الأرض وهنا توزعت الأدوار فريق تحالف مع الحوثي وتسلم صنعاء، بينما الآخر انسحب بهدوء وترك ما عنده من ترسانة للأسلحة والقوات وكذا المناصرين دون مقاومة وولى لاجئًا باتجاه الشمال، وهنا نوكد للمرة الثانية أنه لو كانت هناك دولة محترمة لن تسقط صنعاء بيد مليشيات قادمة من كهوف مران.

بعد ثمان سنوات حرب لم يتبق مع الشرعية غير مدينة مأرب وجزء من مدينة تعز، ولكنها استطاعت أن توجه جيوشها نحو الجنوب وإتاحة فرصة للمليشيات بأن تفرض أمرًا واقعًا على المساحة الجغرافية للجمهورية العربية اليمنية، ولم يكن ذلك اعتباطًا ولكنه نتيجة تفاهم بينها وبين المليشيات من تحت الطاولة والهدف استعادة الجنوب إلى حضيرة باب اليمن وفي نفس الوقت استنزاف التحالف، وهذا ما أثبته سير المعارك الانهزامية التي قادتها الشرعية ضد الانقلابيين في كل الجبهات.

بعد تغيير ميزان القوى العسكري على الأرض لصالح الحوثي جرى نقل السلطة من الشرعية إلى شرعية جديدة تمثل بالمجلس الرئاسي ومع فرض هدنة من قبل الإقليم والعالم والهدف إتاحة الفرصة للسلام هذه الهدنة يتم تجديدها وهناك مفاوضات متعددة الأطراف في عواصم متعددة لتهيئة الشروط لإحلال السلام في اليمن ولكن كل الحلول المطروحة التي يحاول بها الإقليم والعالم تبنيها على أساس تقاسم السلطة لا يحل الإشكال المزمن في اليمن وهو (الشكوى من عدم وجود دولة في هضبة صنعاء أولًا) تمتلك مؤسسات تستند إلى الدستور والقانون في العلاقة بينها وبين المواطن العادي، فهذا غير موجود اليوم ومستحيل أن يكون في المدى المنظور، وما هو موجود اليوم كأمر واقع كالتالي:

- في صنعاء جماعة الحوثي انتزعت السلطة وأسقطت ما تسمى بالدولة وتفرض أمرًا واقعًا بنظام حكم مختلف جذريًا عما كان معمولًا قبل الانقلاب وتدعي بأن لديها مشروع إلهي مكلفة بحكم اليمن إلى جانب علاقتها الوثيقة مع الجمهورية الإسلامية في إيران واستلهام نموذجها في الحكم.

- الشرعية المتمثلة في المجلس الرئاسي انتقل إلى عدن لا يملك حاضنة شعبية غير الدعم الإقليمي والدولي ومدينتين مسيطر عليهما مأرب وجزء من تعز.

- المجلس الانتقالي مسيطر على الجنوب ويملك شرعية تتمثل في المقاومة الشعبية الجنوبية التي تصدت للغزو الحوثي العفاشي على الجنوب وتحرير الجنوب في غضون ثلاثة أشهر كما لديه حاضنة شعبية عارمة.

السؤال: كيف سيتم اختراع عملية سلام بين قوى متناقضة؟ كيف سيتم تجميعهم على طاولة الحوار حتى يناقشوا ويتفقوا؟ وهل فكرة تقاسم السلطة سيكون الحل الأمثل وبين من ومن سيتم تقاسم السلطة وأي سلطة التي سيتم تقاسمها بالوقت الذي لن يقبل الحوثي فيه بأي مشاركة له في السلطة ولديه أجندات مختلفة حتى وإن تم تأقلم الشرعية الشمالية مع هذه الأجندة على ماذا سيناقش الجنوبيون قضيتهم؟ ومع من وماذا تبقى لكي تتم مناقشتها إذا توافقت الشرعية والحوثي؟ وهل يعتقد العالم والإقليم أن الجنوبيين سيقبلون بأن يكونوا جزءًا من النظام الهجين الذي يتعارض مع توجهاتهم الوطنية والدينية، وهل لدى العالم القدرة على فرض إرادات غير مقبولة على شعب الجنوب؟

أنا على يقين بأن دول الإقليم والعالم كانوا يعلمون أن لا توجد دولة حقيقية في صنعاء وإنما هناك سلطة تتحكم بإدارة البلاد خارج نطاق القانون، وأنا على يقين بأن الإقليم والعالم يعلم أن الوحدة بين الجنوب والشمال لم تستمر إلا ثلاث سنوات وأن ما تلا ذلك يعتبر احتلال الجنوب بالقوة حسب تصريح أحد قادة الاحتلال، لكن غير المفهوم هو إصرار الإقليم والعالم على التعامل ودعم الوضع الخاطئ.

الشرعية لم تكن جادة في استعادة العاصمة صنعاء خلال الثماني السنوات الماضية وأضاعت فرصًا كثيرة، وحتى اليوم لم تكن جادة عبر المجلس الرئاسي الذي لم نرَ أي خطة جادة من جانبها الأول سياسيًا تفاوضيًا وفق الأجندات الإقليمية والدولية المطروحة، وفي الجانب الآخر عسكري للتهيئة لمواجهة أي موقف يتطلب الردع للانقلابيين ناهيك عن مسؤولية هذا المجلس عن توفير الخدمات الضرورية لسكان المناطق المحررة التي أصبحت أكثر سوءًا، وحتى اللحظة لا أحد يلمس أي تحرك جاد من قبل المجلس.

اشتراك الجنوب في المجلس الرئاسي هي لمنح فرصة أخيرة لممثلي الشرعية الشمالية بالعمل الجاد نحو حلحلة الوضع العسكري والسياسي في خارطة الشمال نحو استعادة العاصمة صنعاء، ولا يجب استغلال وجودهم في الجنوب للعب في مربع الجنوب؛ لأن ذلك سيزيد الأزمة تعقيدًا وأيضًا من واجب التحالف الضغط على المجلس لتنفيذ الاتفاق الذي توصلت إليه الأطراف حول مهام هذا المجلس، فشعب الجنوب لا يتحمل المزيد من الأزمات ولديه ما يكفيه من المعاناة جرَّاء الحصار المحكم التي فرضته عليه الشرعية.

الجنوب لديه القدرة على استعادة دولته خلال فترة انتقالية وجيزة إن ارتفع الفيتو على عودتها من قبل الإقليم والعالم وفيها يحدد الجنوبيون شكلها وأسس بنائها ولن تستغرق عدة أشهر، وهذه الدولة ستكون ضامنة للأمن والاستقرار في المنطقة.

الجنوب لا يحتمل العيش بدون دولة ولديه إرث ثقافي ينزع إلى المدنية والالتزام بالنظام والقانون وكفى ما ضاع من عمره خلال فترة ما تسمى بالوحدة، والذي يعتبر بأنه تأخر فيها قرنًا من الزمان عن العالم.

أما إخوتنا في الشمال نراهم قد تأقلموا مع الحوثي وأن شرعيتهم نراها غير جادة في الحوار كما كانت غير جادة بالحرب معه، فلديهم الحرية في اختيار طريقهم، لكن عليهم أن يعرفوا أن من غير المقبول أن يبقوا حكامًا في الجنوب.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى