​اختفاء المساحات الخضراء من صنعاء القديمة.. بفعل البشر أم بفعل المناخ؟

> نورا الظفيري

>
تُعدّ المساحات الخضراء داخل صنعاء القديمة، التي تسمى بالبساتين والمقاشم، متنفساً ومصدراً لبعض الخضروات والفواكه البسيطة لسكان المدينة، إذ تطل بعض المساكن على هذه البساتين، وهي أحد أوجه التراث اليمني وأوجه الجمال في صنعاء القديمة، التي تتميز بمخطط هندسي دقيق أفرد مساحات كبيرةً للحيّز الأخضر، وجعل مكونات المدينة نظاماً بيئياً موحداً، تتكون حاراتها من مساحات خضراء من حولها مبانٍ معمارية مثل أسوار، وبجوارها مساجد وحمامات بخارية.


لكن في السنوات الأخيرة، أصبحت هذه المساحات الخضراء عرضةً للتصحر والجفاف، وكانت البداية من الانخفاض المتسارع لمستوى المياه الجوفية في هضبة صنعاء سنةً تلو أخرى، وهي التي تزوّد البساتين بالماء، بجانب التدخل البشري في النظام البيئي القديم، الذي زاد من نسبة الجفاف.
فقديماً، كانت المساحات الخضراء تُسقى من مياه الآبار الخاصة في المساجد، إذ كانت تُستخدم للوضوء بدايةً، ثم تُخزَّن في بركة المسجد وبعد ذلك تمر بالبساتين لريّها، لكن هذه الطريقة تغيّرت، وتداخلت المخلّفات الآدمية مع المياه النظيفة، فحرمت المقاشم من أحد مصادر ريّها التقليدية، من دون وجود بدائل.

وعن هذا النظام يتحدث إلى رصيف22، عبد الله موسى، مدير البرامج في مركز "الهدهد للدراسات الأثرية"، ويشير إلى أنه تم إجراء تحديثات في مدينة صنعاء القديمة في ثمانينيات القرن المنصرم، وتم تغيير نظام الصرف الصحي للمساجد، وهذا بدوره ألغى عملية وجود المطاهر المخصصة فقط للوضوء الخارجي الذي يسبق الصلاة، ما أثّر على ريّ المساحات الخضراء المجاورة.

ويتفق المهندس وجيه المتوكل، مدير عام الإنتاج النباتي في وزارة الزراعة والري مع ما قاله موسى، ويشدد على أن ذلك النظام خلق ديمومةً للبساتين، واستمراراً للنظام البيئي لسنوات، الأمر الذي لم يعد موجوداً اليوم.
ويضيف أن السبب الآخر الذي أدى إلى تصحر وجفاف البساتين والمقاشم، هو مشروع رصف وتزفيت حارات وشوارع صنعاء القديمة، من دون اتخاذ تدابير تضمن استمرار تغذية المياه الجوفية، وحصاد مياه الأمطار الموسمية، ما أدى إلى جفاف الآبار داخل المدينة، وهي ملاحظة اتفق عليها جميع من تمت مقابلتهم في أثناء العمل على هذا التقرير.


تقلص أعداد البساتين

وفقاً لتقرير "بساتين ومقاشم صنعاء القديمة"، للباحث ميكيل برسولو وآخرين، الذي أُعدّ بتكليف من منظمة اليونسكو عام 2000، توجد في مدينة صنعاء القديمة 43 حديقةً (ما بين مقشامة وبستان)، منها 34 تقع داخل أسوار المدينة، و9 تقع غرب وادي السائلة في الحي العثماني، وتمثّل البساتين قرابة 13 في المئة من مساحة المدينة، بمساحة تبلغ نحو 21 هكتاراً.

وفي أثناء التحقق من هذه الإحصائية حالياً، وبعد مرور نحو 20 عاماً على صدور التقرير، وجدت معدة التقرير عن طريق خرائط غوغل، أن المساحات الخضراء تقلصت إلى 37 بستاناً ومقشامةً، وهناك مساحات كثيرة تصحرت مثل مقشامة بروم والأبهر، وهناك ما تم البناء عليه بشكل كلّي أو جزئي، مثل بستان معمر والعلمي والهبل.

وفي هذا الجانب، تقول الباحثة في مجال الدراسات التاريخية نجلاء الحكيم، إن جزءاً كبيراً من صنعاء القديمة كان عبارةً عن مساحات خضراء، أما واقع تلك المساحات اليوم فمؤلم، وتضيف الحكيم وهي مسؤولة الحرف في الهيئة العامة للمحافظة على المدن التاريخية: "نجد الكثير من تلك البساتين والمقاشم مهملاً، وقد أصبح مكباً للنفايات، وتقلصت المساحات بالاستيلاء عليها إما كلياً أو جزئياً، وكذلك المساحات المخصصة للآبار القديمة ونظم السحب منها، والتي كانت تتغذى عليها البساتين، إذ تم البناء فيها واختفت وطُمست معالمها وأصبحت منازل ومحال تجاريةً".

مخالفة للقانون

وبالرجوع إلى قانون الحفاظ على المدن التاريخية، تنص المادة (58) على أنه "يُحظر على أي شخص طبيعي أو اعتباري طمس أو تغيير أو تشويه السمة التاريخية للمبنى أو المعلم التاريخي أو الموقع المسجل بصورة عامة، أو أي عنصر من عناصره التي تعبّر عن طبيعته وخصوصيته، مثل العلاقة بين المباني والساحات الخضراء والفراغات أياً كانت ملكيتها".

كما ينص القانون على "حظر البناء في نطاق الموقع المسجل أو في ساحاته وبساتينه ومقاشمه أو استخدامها لمخلفات البناء أو النفايات أياً كانت ملكيتها"، وهو ما يؤكد أن ما يحدث للمساحات الخضراء من عمليات استيلاء عليها ومن بناء فوقها ومن رمي للمخلفات وجعلها عرضةً للجفاف والتصحر، مخالف للقانون ومواده.
وتنص المادة 107 من القانون نفسه على غرامة قدرها 25% من قيمة الأعمال المنفذة في حال مخالفة المادة السابقة، مع ضرورة إعادة الحال إلى ما كان عليه على نفقة المخالف، لكن هذه العقوبة لا تطبَّق على الإطلاق.


تأثير في أجواء المدينة

يؤثر تراجع المساحات الخضراء على درجة الحرارة في المدينة، وفي هذا السياق يقول الدكتور يوسف المخرفي، أستاذ ورئيس قسم البيئة والتنمية المستدامة في جامعة 21 سبتمبر في صنعاء، لرصيف22: "يساهم النبات في تلطيف حرارة الجو المحيط، وأثّر هلاك وتدهور المقشامات وتحويل البعض منها إلى أراضٍ سكنية أو أرصفة حجرية، ومن نباتات مثمرة إلى أشجار حراجية، على النظام البيئي واستقرار مكوناته".

ويتابع: "عانت البساتين معاناة قاع صنعاء الزراعي الذي احتله العمران، ومن حسن الطالع أن بعض تلك المساحات قد خُطّط لها لتكون بمثابة أرصفة حجرية، وتالياً من الممكن استعادتها، أما تلك التي احتلها العمران فمن المستحيل استعادتها أو استصلاحها".
كما يرى أن تنمية الوعي لدى مخططي وسكان صنعاء القديمة، بأهمية تلك المساحات مناخياً وزراعياً واقتصادياً، وكمتنفسات للأحياء المحيطة بها، من الممكن أن يسهم في إعادتها إلى الحياة الخضراء والإنتاج.

جفاف الآبار والزراعة

هناك مساحات خضراء تقاوم التصحر لتحافظ على بقائها من الاندثار، كمقشامة الوشلي، وتقع داخل سور المدينة القديم، في حارة الوشلي، وتُعدّ من الحدائق المغلقة بالجدران والمباني الأثرية القديمة، وتبلغ مساحتها قرابة 3،000 متر مربع.
وفي السياق، يقول محمد عبد الله زيد (60 عاماً)، وهو أحد مزارعي مقشامة الوشلي، لرصيف22: "تشققت الأرض الزراعية وجفّت بسبب جفاف الآبار، ولكن مع الآبار الارتوازية التي أنشأناها، ما زالت المقشامة تقاوم، ونزرع فيها بعض الأشجار، ويُسمح لنا بري الأرض مرةً كل نصف شهر، لأن الآبار تغطي عدداً من المساجد أيضاً".

ويضيف زيد أن الأراضي الزراعية كانت تُسقى بمياه الأمطار والآبار ومياه المساجد، لذلك تكون خضراء طوال العام، وبحسرة يكمل حديثه: "الآن كما تشاهدين لا يوجد شيء. نحاول إصلاح الأرض وزرع البذور ولكن دون جدوى، لعدم توفر الماء وتأخّر هطول الأمطار وارتفاع درجات الحرارة".
كما يشرح المتحدث أن "هذه الأرض كانت تعيل أربع أسر مع جميع أفرادها، أما الآن فلا تعيل حتى فرداً واحداً مع صعوبة توفير المياه والمشتقات النفطية والبذور، وعدم توفيرها من قبل هيئة الأوقاف، وهذا جعلهم يبحثون عن عمل في مزارع خارج صنعاء القديمة"، وتُعدّ الهيئة الجهة المسؤولة عن المقاشم والمالكة لها، ويعمل المزارعون بتوجيه منها.

وهنا يشدد عبد الله موسى، على أن المساحات الخضراء تقلصت وأصابها الجفاف وهجرها في السنوات الأخيرة القائمون عليها من المزارعين نتيجة ارتفاع تكاليف ريّها مقابل مداخيلها، وذلك الهجران جعلها مطمعاً للكثيرين للبناء عليها.


محاولة لإعادة تأهيل البساتين

من جانبه، يُرجع عبد الله زيد، وهو شقيق محمد ويبلغ من العمر 45 عاماً، ما حصل للمساحات الخضراء داخل المدينة القديمة إلى "عدم المصداقية لدى المسؤولين في الدولة أنفسهم في البحث عن حلول تعالج جفاف الآبار، في حين أننا نسعى إلى إعادة تأهيل البساتين والمقاشم لكن من دون استجابة".
ويشير إلى قضية تخصه، حين راجع مع رفاقه المجلس المحلي للعمل على تعميق الآبار اليدوية وتحويلها إلى ارتوازية قبل عشر سنوات، وتم تحويله في ما بعد إلى وزارة الأوقاف، التي وضعت بالتعاون مع أحد المقاولين تكلفة مشروع لإعادة إصلاح أربع آبار هي الحرقان والطبري والتقوى والخراز، تُقدَّر بستين مليون ريال يمني (قرابة 300 ألف دولار وفق سعر الصرف حينها)، في حين أن التكلفة الحقيقية لا تتجاوز 15 مليون ريال.

وقد اطّلعت معدّة التقرير على أوراق القضية التي بين المقاول والمزارعين الذين يسعون جاهدين إلى الحفاظ على البساتين، واستمرت القضية لسنوات بين المجلس المحلي وهيئة الأوقاف وأمانة العاصمة ووزارة المياه والبيئة والصحة، لاستخراج التصاريح المطلوبة، لكن دون جدوى.
ويتابع زيد أنهم نجحوا بعد جهود كبيرة في الحصول على موافقات للتخطيط لتعميق ثلاث آبار ارتوازية هي الوشلي وشارب والبكيرية، وتُعدّ هذه الآبار في الوقت الراهن المصدر الرئيس لأبناء المدينة والجوامع وريّ بعض المساحات الخضراء.

كما يرى المتحدث أنه يوجد داخل صنعاء القديمة أربع آبار ارتوازية، لو تم تشغيلها ستكفي المدينة بأكملها من بيوت ومزارع وجوامع، وهي لا تتطلب إلا تكلفة بسيطة جداً، لكن تحتاج إلى نية حقيقية للعمل من المسؤولين.
من جانبها، تشير الباحثة نجلاء الحكيم إلى ضرورة استغلال مياه الأمطار الغزيرة وعمل خزانات لحجزها لفترات الجفاف وكذلك تغذية الآبار الجافة.

وتختم حديثها بالقول: "مشكلة ما يحدث في صنعاء القديمة، هي تداخل الاختصاصات بين الجهات والسلطات والمكاتب الحكومية، من الأوقاف وهيئة المدن وأمانة العاصمة والمجلس المحلي، ويحتاج الحل إلى قرار سياسي في الدرجة الأولى، يعطي صلاحيات للهيئة العامة للمحافظة على المدن التاريخية ويحاسبها على تقصيرها".

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى