> د. هيثم الزبيدي*
يحاول الأردن جاهدا احتواء الاحتجاجات التي تنتشر في أكثر من مدينة أردنية. تحولت الاحتجاجات إلى مشاهد عنف وتخريب تحركت أجهزة الأمن لمواجهته. وفق المعطيات الاقتصادية الحالية للبلاد، لا يوجد ما تقدمه السلطات للمحتجين إلا القبضة الحديدية. استهلك الأردن رصيده السياسي القبلي على مدى الأعوام الماضية. الأصوات القبلية الحاضرة بالبرلمان الأردني محسوبة على السلطات وما عاد من أحد يستمع إلى خطاب التهدئة الذي تردّده. ثمة قيادة قبلية وسياسية مختلفة تفرز نفسها في مقدمة الاحتجاجات، كما نرى ذلك واضحا فيما يحدث في معان.
ما يقلق في المشهد الأردني هو نسبة التجرؤ على السلطة. لا يزال بعض شيوخ القبائل الكبرى يرددون مفردة “سيّدنا” في الإشارة إلى العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني. لكن مع الإشارة، تأتي التهديدات بأنهم مستعدون لأخذ زمام الأمر بأيديهم. إنذارات بالأيام قبل التحرك. مشاهد الفيديو المتداولة على الشبكات الاجتماعية لا تقدّم صورا لحرق سيارات ومواجهات مع قوات الأمن في مدن أساسية في البلاد فقط، بل انفلاتا لسانيا من قبل الكثير من الأردنيين في التهجّم على الأسرة المالكة. لم يعد هؤلاء المتهجمون يخفون وجوههم بشماغ، بل يتحدثون أمام تجمعات ويتحركون بقصد أن تسجل الكاميرات كلماتهم ووجوههم. التهجم على رئيس الحكومة والوزراء ما عاد يحسب، بل هو أكثر من طبيعي.
الأردن مثله مثل بقية الدول محدودة الموارد، يواجه أزمة اقتصادية خانقة. الأزمات الاقتصادية لا تضرب جيوب الناس فقط، بل تحرّك مشاعرهم وتستفز عقولهم. طالما كانت الأمور في نطاق المعقول، يتم التجاوز على الكثير من الإخفاقات الحكومية. لكن عوامل عديدة ضغطت على الأردنيين لسنوات، وأخرجتهم عن طور الرضا. ذهب زمان النفط المجاني أو شبه المجاني من العراق، وانكمشت التجارة معه. توطين الوظائف في الخليج وتقليص الميزانيات دفعا العديد من الأردنيين إلى العودة. المنح الخليجية تراجعت بشكل كبير ولم تعد توضع بالحسبان. الوعود بفتح باب التوظيف لعشرات الآلاف من الأردنيين، كما تعلن قطر أكثر من مرة، بقيت وعودا. ثم جاء الوباء وبعده حرب أوكرانيا. تتصرف الحكومة الأردنية بطريقة إطفاء الحرائق والتماسك أمام المطالب الشعبية، لأنها بدورها مجبرة على الالتزام بشروط صندوق النقد الدولي لاستمرار القروض.
الأردنيون يعرفون كل هذا. لكن ما يستفزهم هو أن الخناق الاقتصادي يأتي مصحوبا بالفساد. وللإنصاف، فإن الحكومة الحالية مثل الحكومة التي سبقتها والتي سبقتها من قبل، ورثت ملفات الفساد. الفساد في الأردن جزء من السياسة. ابتداء من استرضاء السياسيين والزعماء القبليين بمنحهم امتيازات تبدو بسيطة مثل حفر بئر ماء وبيع المياه في بلد يعاني من الجفاف، وصولا إلى التحكم بقطاعات اقتصادية مهمة من قبل رجال أعمال نافذين. ولا تخدم الخلطة الديمغرافية الأردنية، بين شرق أردنيين وفلسطينيين، القضية. وسكبت الوثائق الغربية المسربة عن امتلاك الأسرة المالكة لأرصدة وعقارات في الخارج، المزيد من الزيت على نار الاتهامات بالفساد.
الفساد، أو سوء الإدارة، كان من أسباب تقليص المنح الخليجية للأردن. حتى الاستثمارات تراجعت بعد “مقالب” تعرض لها المستثمرون الخليجيون. ما إن تتم المشاريع، حتى تبدأ السلطات بتغيير شروط العقد. لا أحد يستطيع أن يعمل في بيئة استثمارية تشتغل على أساس اصطياد المستثمر، لكن، هل يكفي هذا لترك الأردن يواجه أزمته وحيدا، أو بعصا أمنية من دون أي جزر؟ الجغرافيا لوحدها كافية للرد بلا. هذا بلد بموقع خطير على الحدود الشمالية للمنظومة الخليجية، ومحاذٍ لإسرائيل والعراق وسوريا. تهريب حبوب الكبتاجون السورية واللبنانية شيء بسيط بالمقارنة لما يمكن أن تتسبب فيه فوضى أمنية وسياسية واجتماعية في الأردن.
عاد رئيس الوزراء الأردني بشر الخصاونة من الرياض الأسبوع الماضي خالي الوفاض. وسواء أكان الخصاونة أفضل أو أسوأ رئيس حكومة مرّ على الأردن، فهذه قضية جدلية ترد عليها قائمة طويلة -أطول من اللازم- لسيرة انعدام إنجازات من سبقه إلى المنصب. التدخل الخليجي ضروري، أيا كان رئيس الحكومة في الأردن، بل وبقبول أن الفساد مستشرٍ في البلاد.
الدولة الأردنية، وخصوصا الجيش وقوى الأمن، لا تزال متينة وقادرة على التحرك لضمان أمن البلاد. لا يمكن التعويل على قدرتها المطاولة كثيرا في مواجهة اضطرابات اجتماعية بدوافع اقتصادية. رجال القوات المسلحة والقوات الأمنية هم أبناء القبائل المستاءة. بمرور الوقت، ومن دون حلول، قد يواجه التماسك الذي تبديه الدولة من وراء الملك وولي العهد والحكم، بعض الاهتزاز. مشهد تحيّز بعض مراكز القوى في السلطة للأمير حمزة ليس ببعيد.
لا يمكن مقارنة الوضع الحالي في الأردن بذاك الذي سبق انهيار سلطة الرئيس اليمني علي عبدالله صالح في اليمن، ووصول الحوثيين إلى السلطة ليشكلوا أكبر تهديد للأمن في الخليج من حافته الجنوبية. لكن ألوية الحرس الجمهوري اليمني لم تنقذ سلطة صالح. وثمة عناصر سياسية شبيهة، بعضها له علاقة بالتذمّر القبلي في اليمن الذي بدأ ببكيل ووصل إلى حاشد، أو إخواني متمثلا في الإصلاح، والآخر اقتصادي تمثل بعودة أكثر من مليون يمني من السعودية. القبائل المحتجة والإخوان والعائدون من الخليج، هي عوامل تشابه بين اليمن والأردن. حكاية اليمن معروفة اسمها الحرب المستمرة منذ سنوات. لا نريد لحكاية شبيهة لها في الأردن.
الفساد لا يكفي لتبرير عدم دعم الأردن. الفساد موجود في الدول الغنية والفقيرة، كما تؤكد حملة القيادة السعودية المستمرة منذ سنوات على الفساد. الفساد يمارسه المتنفذون في أعلى المستويات، ويمارسه من يحيط بهم والأقل مرتبة وصولا إلى متلقي البقشيش عند دخولك من منفذ حدودي أو مطار. ما يهم الآن هو صيانة تماسك الدولة.
أطلق الاسم المناسب على ما يمكن أن يقدم للأردن الآن: منحة، أو دعم، أو رسم حماية. الدولة الأردنية المتماسكة التي تضمن حدودا آمنة بلا اضطرابات قبلية أو اجتماعية أو انفلات للتهريب أو الأمن، هي أرخص خيار في مواجهة أزمات العالم الحالية. ثمة تجربة تنمية رائدة في السعودية تتحرك بالتوازي مع حركة إصلاح اجتماعي غيرت واقع المملكة خلال سنوات قليلة. اليوم ثمة مدينة مستقبلية في شمال السعودية تبرز على بعد مسافة قليلة من الحدود الأردنية. نيوم على بعد 250 كم من معان، مركز الاضطرابات الاجتماعية والسياسية الحالية، والمسافة أقرب من العقبة. ينظر الأردني، ذو الامتداد القبلي مع أبناء شمال السعودية، فيرى مدينة تشيد بميزانية 500 مليار دولار. هو يصارع من أجل البقاء. وكما تعلّمنا من حروب اليمن وسوريا والعراق، فإن الحاجة تغيّر النفوس. الموضوع لن يكون محصورا بالحسد. وثمة من لديه المصلحة في تغذية الزعل الأردني من ترك البلد وحيدا أمام أزمة مصيرية. حماية الإنجاز في نيوم يبدأ بالتأكد من أن كل شيء هادئ على الحدود الشمالية.
*"كاتب من العراق مقيم في لندن - العرب"
ما يقلق في المشهد الأردني هو نسبة التجرؤ على السلطة. لا يزال بعض شيوخ القبائل الكبرى يرددون مفردة “سيّدنا” في الإشارة إلى العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني. لكن مع الإشارة، تأتي التهديدات بأنهم مستعدون لأخذ زمام الأمر بأيديهم. إنذارات بالأيام قبل التحرك. مشاهد الفيديو المتداولة على الشبكات الاجتماعية لا تقدّم صورا لحرق سيارات ومواجهات مع قوات الأمن في مدن أساسية في البلاد فقط، بل انفلاتا لسانيا من قبل الكثير من الأردنيين في التهجّم على الأسرة المالكة. لم يعد هؤلاء المتهجمون يخفون وجوههم بشماغ، بل يتحدثون أمام تجمعات ويتحركون بقصد أن تسجل الكاميرات كلماتهم ووجوههم. التهجم على رئيس الحكومة والوزراء ما عاد يحسب، بل هو أكثر من طبيعي.
الأردن مثله مثل بقية الدول محدودة الموارد، يواجه أزمة اقتصادية خانقة. الأزمات الاقتصادية لا تضرب جيوب الناس فقط، بل تحرّك مشاعرهم وتستفز عقولهم. طالما كانت الأمور في نطاق المعقول، يتم التجاوز على الكثير من الإخفاقات الحكومية. لكن عوامل عديدة ضغطت على الأردنيين لسنوات، وأخرجتهم عن طور الرضا. ذهب زمان النفط المجاني أو شبه المجاني من العراق، وانكمشت التجارة معه. توطين الوظائف في الخليج وتقليص الميزانيات دفعا العديد من الأردنيين إلى العودة. المنح الخليجية تراجعت بشكل كبير ولم تعد توضع بالحسبان. الوعود بفتح باب التوظيف لعشرات الآلاف من الأردنيين، كما تعلن قطر أكثر من مرة، بقيت وعودا. ثم جاء الوباء وبعده حرب أوكرانيا. تتصرف الحكومة الأردنية بطريقة إطفاء الحرائق والتماسك أمام المطالب الشعبية، لأنها بدورها مجبرة على الالتزام بشروط صندوق النقد الدولي لاستمرار القروض.
الأردنيون يعرفون كل هذا. لكن ما يستفزهم هو أن الخناق الاقتصادي يأتي مصحوبا بالفساد. وللإنصاف، فإن الحكومة الحالية مثل الحكومة التي سبقتها والتي سبقتها من قبل، ورثت ملفات الفساد. الفساد في الأردن جزء من السياسة. ابتداء من استرضاء السياسيين والزعماء القبليين بمنحهم امتيازات تبدو بسيطة مثل حفر بئر ماء وبيع المياه في بلد يعاني من الجفاف، وصولا إلى التحكم بقطاعات اقتصادية مهمة من قبل رجال أعمال نافذين. ولا تخدم الخلطة الديمغرافية الأردنية، بين شرق أردنيين وفلسطينيين، القضية. وسكبت الوثائق الغربية المسربة عن امتلاك الأسرة المالكة لأرصدة وعقارات في الخارج، المزيد من الزيت على نار الاتهامات بالفساد.
الفساد، أو سوء الإدارة، كان من أسباب تقليص المنح الخليجية للأردن. حتى الاستثمارات تراجعت بعد “مقالب” تعرض لها المستثمرون الخليجيون. ما إن تتم المشاريع، حتى تبدأ السلطات بتغيير شروط العقد. لا أحد يستطيع أن يعمل في بيئة استثمارية تشتغل على أساس اصطياد المستثمر، لكن، هل يكفي هذا لترك الأردن يواجه أزمته وحيدا، أو بعصا أمنية من دون أي جزر؟ الجغرافيا لوحدها كافية للرد بلا. هذا بلد بموقع خطير على الحدود الشمالية للمنظومة الخليجية، ومحاذٍ لإسرائيل والعراق وسوريا. تهريب حبوب الكبتاجون السورية واللبنانية شيء بسيط بالمقارنة لما يمكن أن تتسبب فيه فوضى أمنية وسياسية واجتماعية في الأردن.
عاد رئيس الوزراء الأردني بشر الخصاونة من الرياض الأسبوع الماضي خالي الوفاض. وسواء أكان الخصاونة أفضل أو أسوأ رئيس حكومة مرّ على الأردن، فهذه قضية جدلية ترد عليها قائمة طويلة -أطول من اللازم- لسيرة انعدام إنجازات من سبقه إلى المنصب. التدخل الخليجي ضروري، أيا كان رئيس الحكومة في الأردن، بل وبقبول أن الفساد مستشرٍ في البلاد.
الدولة الأردنية، وخصوصا الجيش وقوى الأمن، لا تزال متينة وقادرة على التحرك لضمان أمن البلاد. لا يمكن التعويل على قدرتها المطاولة كثيرا في مواجهة اضطرابات اجتماعية بدوافع اقتصادية. رجال القوات المسلحة والقوات الأمنية هم أبناء القبائل المستاءة. بمرور الوقت، ومن دون حلول، قد يواجه التماسك الذي تبديه الدولة من وراء الملك وولي العهد والحكم، بعض الاهتزاز. مشهد تحيّز بعض مراكز القوى في السلطة للأمير حمزة ليس ببعيد.
لا يمكن مقارنة الوضع الحالي في الأردن بذاك الذي سبق انهيار سلطة الرئيس اليمني علي عبدالله صالح في اليمن، ووصول الحوثيين إلى السلطة ليشكلوا أكبر تهديد للأمن في الخليج من حافته الجنوبية. لكن ألوية الحرس الجمهوري اليمني لم تنقذ سلطة صالح. وثمة عناصر سياسية شبيهة، بعضها له علاقة بالتذمّر القبلي في اليمن الذي بدأ ببكيل ووصل إلى حاشد، أو إخواني متمثلا في الإصلاح، والآخر اقتصادي تمثل بعودة أكثر من مليون يمني من السعودية. القبائل المحتجة والإخوان والعائدون من الخليج، هي عوامل تشابه بين اليمن والأردن. حكاية اليمن معروفة اسمها الحرب المستمرة منذ سنوات. لا نريد لحكاية شبيهة لها في الأردن.
الفساد لا يكفي لتبرير عدم دعم الأردن. الفساد موجود في الدول الغنية والفقيرة، كما تؤكد حملة القيادة السعودية المستمرة منذ سنوات على الفساد. الفساد يمارسه المتنفذون في أعلى المستويات، ويمارسه من يحيط بهم والأقل مرتبة وصولا إلى متلقي البقشيش عند دخولك من منفذ حدودي أو مطار. ما يهم الآن هو صيانة تماسك الدولة.
أطلق الاسم المناسب على ما يمكن أن يقدم للأردن الآن: منحة، أو دعم، أو رسم حماية. الدولة الأردنية المتماسكة التي تضمن حدودا آمنة بلا اضطرابات قبلية أو اجتماعية أو انفلات للتهريب أو الأمن، هي أرخص خيار في مواجهة أزمات العالم الحالية. ثمة تجربة تنمية رائدة في السعودية تتحرك بالتوازي مع حركة إصلاح اجتماعي غيرت واقع المملكة خلال سنوات قليلة. اليوم ثمة مدينة مستقبلية في شمال السعودية تبرز على بعد مسافة قليلة من الحدود الأردنية. نيوم على بعد 250 كم من معان، مركز الاضطرابات الاجتماعية والسياسية الحالية، والمسافة أقرب من العقبة. ينظر الأردني، ذو الامتداد القبلي مع أبناء شمال السعودية، فيرى مدينة تشيد بميزانية 500 مليار دولار. هو يصارع من أجل البقاء. وكما تعلّمنا من حروب اليمن وسوريا والعراق، فإن الحاجة تغيّر النفوس. الموضوع لن يكون محصورا بالحسد. وثمة من لديه المصلحة في تغذية الزعل الأردني من ترك البلد وحيدا أمام أزمة مصيرية. حماية الإنجاز في نيوم يبدأ بالتأكد من أن كل شيء هادئ على الحدود الشمالية.
*"كاتب من العراق مقيم في لندن - العرب"