الهموم العربية والقضية الفلسطينية

> محمد أبوالفضل/ كاتب مصري

> ​كان من الممكن أن تصبح تصورات الحكومة الإسرائيلية المتطرفة برئاسة بنيامين نتنياهو نقطة انطلاق جديدة لتوفير دعم عربي للقضية الفلسطينية، غير أن الصراعات الإقليمية والهموم العربية المتزايدة تشغل الكثير من الدول عن التصدي لانتهاكات قامت بها أو يمكن أن تقوم بها في حق الشعب الفلسطيني.

ربما يتوقف التعامل العربي معها خلال الفترة المقبلة عند حدود التحفّظ، وفي أحسن الأحوال الرفض، لأن الإدانة والشجب والحسم والتصعيد تبدو من الماضي، في ظل حالة واضحة من التباين في التقديرات، والانكفاء القُطري في التعاطي مع قضايا قومية تأخذ في التخلي عن الحد الأدنى من تفاهم منحها زخما في أوقات سابقة.

وكان من الممكن أن تفجّر ممارسات أعضاء في الحكومة اليمينية بحق الشعب الفلسطيني ومقدساته طوفانا من المظاهرات في الشوارع العربية، لو أن الأزمات الاقتصادية والصراعات السياسية التي تمر بها الكثير من الدول أقل حدة، فالناظر إلى مصر والأردن ولبنان وسوريا والعراق وليبيا واليمن والسودان والجزائر، وغالبيتها كانت ضمن ما يسمّى بمعسكر الرفض أو المقاومة، يعرف لماذا خفتَ صوت القضية الفلسطينية ونجمها عربيا، وسوف يزداد خفوتا.

ليست هذه دعوة إلى الإحباط أو الكسل، لكنها دعوة إلى التفكير والتدبّر مليا في أحداث لا يزال البعض من الفلسطينيين يتعاملون معها على أنها شيء منسي، لأن تعمّد التجاهل لن يؤدي إلى تغيير في المواقف العربية، فحجم التحولات التي رأيناها في الأعوام الماضية ضئيل أمام التغوّل الذي يخيم على تركيبة الحكومة الإسرائيلية، فلم تعمّر طويلا حكومات متطرفة وكانت تخشى القيام بإجراءات تثير عليها حنق بعض الدول العربية، وتستفز قوى دولية حرصت على عدم قطع شعرة معاوية في مسألة التسوية السياسية.

فكلما شدّت إسرائيل الحبل كانت هناك تدخلات لترخي بعض الدول العربية مواقفها، والعكس صحيح، اليوم اختفى الشد والجذب العربي، وغابت ضغوط القوى الدولية على إسرائيل، وخسرت الحركات الفلسطينية الكثير من أوراق المناورة والمساومة.

بقيت إسرائيل تتصرّف كأنها لاعب وحيد في المنطقة والجهة القادرة على التصدي لإيران، ومن يعارضون ضرباتها الجوية على سوريا وانتهاكاتها في الأراضي الفلسطينية يمكن حسابهم على القوى المستعدة للقبول بهيمنة إيران الإقليمية، ما أفضى إلى تآكل جزء كبير من الدعائم التي استند عليها العرب في المعارك العسكرية والمواجهات السياسية اللاحقة مع إسرائيل.

شغلت الهموم الداخلية الكثير من القادة العرب، وحجمت الأزمات الاقتصادية شعوبهم في التعاطف مع القضية الأم، فقبل أن يهتم القادة بما يفعله المسؤولون في إسرائيل يفكرون ألف مرة في المشكلات في بلدانهم وعليهم البحث عن وسائل لتفكيكها.

وقبل أن تصدح المظاهرات في القاهرة أو دمشق أو بيروت على المشاركين فيها تذكّر أن القبضة الأمنية في دولهم لن تسعفهم في الخروج من منازلهم خوفا من أن يتحول التعاطف مع القضية الفلسطينية إلى شجب صريح للأزمات الاقتصادية التي أرهقت كاهل شريحة من المواطنين مستنفرة في هذه الدول.

أصبح القادة وشعوبهم في قارب واحد يجري بعيدا عن التلاحم المعنوي مع الشعب الفلسطيني، وهو الورقة التي منحت قضيتهم قدرة على الصمود خلال السنوات الماضية.

وثمة فئة من الفلسطينيين لم يجدوا أمامهم سوى البحث عن حلول فردية لمشكلاتهم، لأن غالبية القيادات والفصائل يتذكّرون إسرائيل عندما تمثل الإجراءات التي تقوم بها تهديدا مباشرا على مصالح الحركة التي ينتمون إليها.

يتحمل هؤلاء جانبا مهمّا من فقدان الرصيد الفلسطيني في الساحات العربية، لأن الطريقة التي يتعاطون بها مع قضيتهم قلصت رصيدها السياسي الرسمي والشعبي، وقوضت الخطاب القومي الذي غلب عليها خلال عقود طويلة، وتحول التعاطف إلى فعل غريب، وربما “منبوذا”.

تستطيع الحكومة اليمينية المتطرفة في إسرائيل أن تتحرك بأريحية عربية أكبر من ذي قبل، والمثير أن التصدي العملي لها يأتي من داخل إسرائيل، حيث ترفض قوى يسارية فيها بعض توجهاتها، من بينها الإسراف في التعدّي على الحقوق الفلسطينية.

وتأتي هذه المفارقة في زمن تلاشت فيه تقريبا الحيوية التي تمتعت بها قوى اليسار العربية، والتي لعبت دور رأس الحربة في الحشد ضد الممارسات الإسرائيلية، وفي تمديد خيوط التواصل معها سعيا إلى صيغة وسط للسلام مع الدول العربية.

خسر الفلسطينيون معظم أنواع الدعم، داخليا وخارجيا، رسميا وشعبيا، واختفت المناوشات بين قوى الصمود والتصدي، وقوى التسوية والسلام، ولم تعد هناك تراشقات بين فريقين تضفي صحة على القضية الفلسطينية، فثمة اتجاه واحد يسود الدول العربية يميل إلى الاتكال أساسا على القوى الوطنية في الأراضي الفلسطينية.

بالطبع لا ذنب للشعب الفلسطيني في كثافة الهموم العربية، لكن نتيجتها انعكست عليهم بقوة، وربما لم تمنع هذه الهموم التعاطف مع قضيتهم في زمن سابق، غير أنها الآن بدأت تنخر في عظام بعض الدول وتصطحب معها أزمات معقدة جعلت من التعاطف معهم رفاهية سياسية ليس هذا أوانها.

◙ كان من الممكن أن تفجّر ممارسات أعضاء في الحكومة اليمينية بحق الشعب الفلسطيني ومقدساته طوفانا من المظاهرات في الشوارع العربية، لو أن الأزمات الاقتصادية والصراعات السياسية التي تمر بها الكثير من الدول أقل حدة

تفرض المعطيات الجديدة إعادة في نمط التفكير الفلسطيني، لأن سقف التطلعات ينخفض بوتيرة متسارعة، ويكاد ينتقل من محو إسرائيل وإلقائها في البحر المتوسط أو الأحمر في الماضي إلى تلاشي الفلسطينيين وحصرهم في قطاع غزة مستقبلا.

ولن تبقي حملة التجريف التي تنوي حكومة نتنياهو المتطرفة القيام بها لتأكيد نجاحها في الوفاء بوعودها وعدم التصدي الدولي لها، هامشا للمناورة أو الضغط عليها.

كما أن المقاومة الوطنية بدأت تتآكل من جذورها مع استمرار حالة الانقسام الفلسطيني، واتساع نطاق التعاون العربي مع إسرائيل في مشروعات إقليمية مشتركة، لن يستفيد منها الفلسطينيون ما لم تظهر ملامح عملية لتوظيفها في صالحهم.

من الصعب أن يقود العزوف والرفض والتشكيك في نوايا الجهات العربية المنخرطة أو تنوي الانخراط في مشروعات مشتركة مع إسرائيل إلى نتيجة سوى إلى تكرار نماذج أثبت التاريخ أنها أخفقت في دعم القضية الأم، ومع مرور الوقت والتمسك بهذه الطريقة من التفكير قد لا يتبقى لدى الشعب الفلسطيني ما يتفاوض حوله مع إسرائيل.

خسر الفلسطينيون جزءا كبيرا من الدعم العربي وسط الشواغل الداخلية المتعاظمة لدوله، ولتجنب خسارة المزيد عليهم وقف الانسياق وراء سياسة دفعوا بسببها ثمنا باهظا، من المهم وقف التراشقات البينية وترتيب الأوراق بشكل يمنح أولوية للمصالح الوطنية على الحركية والشخصية، وهذه بداية لطريق الألف الميل، والذي لا تريد إسرائيل أن يطأه الفلسطينيون لأنه يحرجها ويضعها في زاوية ضيقة مع القوى العربية التي لا تزال على استعداد لدعم قضيتهم وسط الهموم المتراكمة.

العرب

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى